من المتعارف عليه قبل سقوط الدولة العثمانية أنه قد تربَّع على عرشها سلاطين عظام. ومن أقوى سلاطين الدولة العثمانية
السلطان سليمان القانوني ابن
السلطان سليم الأول. وفي عهد
السلطان القانوني بلغت الدولة العثمانية إلى مراتب عسكرية وثقافية عليا. تمتع
السلطان بمهارة عسكرية كبيرة، كما شارك بنفسه في أكثر من عشر حروب كبيرة. كان من أبرز أعماله العسكرية السيطرة على مدينة بلغراد عاصمة الصرب، ثم لاحقاً سيطرة
القانوني على حصون دولة المجر (هنغاريا). انتصر
السلطان على دولة المجر، وألحق بهم هزيمة ساحقة في موقعة موهاكر. قضى
السلطان على نفوذ الصفويين في العراق؛ ومن ثم دخل بغداد وضمها للإمبراطورية العثمانية لتصبح ولاية عثمانية. سبب تسمية
سليمان القانوني هو أنه قام بوضع العديد من القوانين والتشريعات والإصلاحات الإدارية مثل قوانين ملكية الأراضي وقوانين تنظيم الجيش والشرطة.
القانوني كان العاشر في شجرة سلاطين الخلافة العثمانية، وحكم 46 سنة بعد وفاة والده سليم الأول. لقب
السلطان بلقب “سليمان العظيم” في الغرب. تولية
السلطان سليمان الحكم: نشأ
السلطان الأول بين الأحداث التي تمر بها الدولة العثمانية، وعاصر الفتوحات والحروب التي انتصر فيها والده. فقد ولد
سليمان القانوني عام 1494م، وتولى العرش عام 1520م، وظل على عرش الدولة حتى عام 1566م. كما عرفت فترة حكمه بأنها العصر الذهبي للإمبراطورية العثمانية، فقد توسَّع
السلطان في كثير من الأراضي. حيث أنشأ عديدًا من المؤسسات الإدارية بالدولة، وشهد عصره ازدهارًا كبيرًا. كما وصلت الدولة في عهده أوج قوتها عسكريًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، خاصَّةً أن
السلطان سليم
القانوني كان من أعظم المُشرِّعين آنذاك.
العلاقة بين السلطان سليمان القانوني وابنه مصطفى
دور “خُرَّم سلطان” ورستم باشا في مقتل الأمير مصطفى
النزاع على ولاية العهدمحاولات الوقيعة بين سليمان القانوني والأمير مصطفى
محاولة الأمير مصطفى الوصول للعرش
مقدمات مقتل الأمير مصطفى
موقف الشعب من مقتل الأمير مصطفى
حقيقة عصيان الأميرهل سعى الأمير مصطفى حقاً للوصول للحكم؟+
الأمير مصطفى هو الابن البكر للسلطان
سليمان القانوني وولي عهده الأول، وهو ابن
السلطان من زوجته الأولى مهدفران سلطان. عندما كان والده حياً كان
الأمير مصطفى هو ولي العهد. كما كان للسلطان
القانوني ثلاثة أبناء يتنافسون على ولاية العهد مع
الأمير مصطفى وهو أكبرهم. ولد
الأمير مصطفى عام 1515م، وتوفِّي عام 1553م، وكان
الأمير مصطفى وليَّ العهد للسلطنة العثمانية، إذ كان أكبر أبناء السلطان، وكان الابن الوحيد من زوجته “ماهي دوران”، أما بقية أبنائه “أربعة أبناء وبنت” فكانوا من زوجته “خرَّم سلطان” الشهيرة باسم “روكسلانة”، وقد كان
الأمير مصطفى من أقوى فرسان الدولة العثمانية، وتمتَّع بتأييد كبير من الشعب العثماني، وكانت العلاقة بينه وبين أبيه علاقة قوية؛ قبل أن يحاول البعض إفساد العلاقة بينهما ما تسبَّب في مقتل
الأمير مصطفى بأمرٍ من والده.
دور “خُرَّم سلطان” ورستم باشا في مقتل الأمير مصطفى
في الحقيقة كان لزوجة
السلطان سليمان القانوني والصدر الأعظم للدولة دور كبير في مقتل
الأمير مصطفى. فكان هدفهما الإطاحة بالأمير مصطفى ليتولَّى العرش أكبر أبناء
السلطان من زوجته “خرَّم سلطان”. وفي الحقيقة قد ذكرت هذه الحادثة في كثير من المصادر العربية والتركية والعربية وغيرها من المصادر التي أرَّخت لتلك الفترة من التاريخ العثماني. خاصَّةً أن الحادثة زلزلت عرش الإمبراطورية العثمانية. ومن أبرز الكتابات التي أرَّخت لتلك الفترة كتاب “تاريخ بجوي” لإبراهيم بجوي المؤرخ العثماني. وكتاب “كُنه الأخبار” للكاتب العثماني مصطفى عالي، وغيرهما من الكتابات الفارسية والأوروبية. وفي الحقيقة أن أكثر ما يؤكد صحة المعلومات الواردة بالكتابات هو أن الكتاب كانوا معاصرين للأحداث. كما تحوَّلت بعض الكتابات لأعمال مسرحية، وعرضت أول مسرحية بإيطاليا عن مقتل
الأمير مصطفى عام 1631م. وأولى مراحل الصراع التي هدفت للإطاحة بالأمير مصطفى هي بالطبع محاولة “خُرَّم سلطان” إبعاد
الأمير مصطفى عن الولايات المهمة بالدولة. فكانت السبب في انتقاله من حكم ولاية “مانيسا” إلى ولاية “أماسيا”، فقد كانت الأولى قريبة من العاصمة؛ بينما كانت الثانية بعيدة عنها. وتولى الحكم في مانيسا
الأمير محمد، وذلك بدعوى تدريبه على إدارة شؤون البلاد.
النزاع على ولاية العهد
كان من المتبع في العهد العثماني تربية الابن الأكبر على كونه
السلطان المنتظر. ولذلك تربى
الأمير مصطفى على هذا الأمر، وكان يرى في نفسه قائدًا للإمبراطورية العثمانية العظيمة. ومع تقدم
السلطان سليمان القانوني في العمر كان من الواضح أن الحكم سيؤول من بعده للأمير مصطفى. كما كان للأمير كثير من الداعمين من أكبر رجال الدولة وجميع طبقات الشعب. ولكن في المقابل كانت “خرَّم سلطان” زوجة
القانوني تسعى لتنحية
الأمير مصطفى. وإفساح المجال لابنها
الأمير محمد، وساعدها في ذلك الصدر الأعظم رستم باشا. وكان نقل
الأمير مصطفى من ولاية مانيسا وتولية
الأمير محمدًا خلفًا له أولى محطات النزاع بين أبناء السلطان، فإذا ما توفِّي
القانوني سيكون حاكم مانيسا له الفرصة الأكبر في اعتلاء عرش السلطنة، ولكن بعد وفاة
الأمير محمد بشكلٍ فجائي فإن فرصة
الأمير مصطفى عادت لمكانها. ورغم وفاة
الأمير محمد، فإن “خُرَّم سلطان” لم تتنازل عن حلم صعود أحد أبنائها عرش الإمبراطورية. وبذلك قامت بجهود كبيرة بمعاونة رستم باشا ليكون لابنها سليم فرصة اعتلاء العرش. وأفادت تقارير من سفراء غربيين بما سبق، فيما أفادت تقارير أخرى بمحاولة “خرَّم سلطان” تقديم بايزيد على أخيه سليم، ودعمه للوصول للعرش.
محاولات الوقيعة بين سليمان القانوني والأمير مصطفى
كان هناك عديد من المحاولات لإضعاف ثقة
السلطان في
ابنه مصطفى. ومن ثم يكون المجال لإبعاده عن العرش أكثر سهولة. كما كان لرستم باشا الدور الأكبر في تشويه صورة
الأمير مصطفى أمام القانوني. ومن أبرز أعماله في هذا الشأن هو: محاولاته في إعاقة
الأمير مصطفى عن تحقيق أي انتصارات يمكنها أن ترفعه في نظر السلطان. فعندما أرسل
الأمير مصطفى طلبات المساعدة عام 1549 وعام 1550م لدعمه في مواجهة الجورجيين؛ الذين قاموا بالاعتداء على ولاية أرضروم، ولم يتم تلبية رستم باشا لطلبه. ولم تكن فقط محاولات رستم قائمة على رفض المساعدة وتجاهله، بل وصلت حد تزوير ختم
الأمير وإرسال رسائل صداقة وتعاون إلى شاه إيران آنذاك، التي تدل على وجود تعاون بين شاه إيران والأمير مصطفى، ما يدعم خيانة
الأمير مصطفى وتشويه صورته أمام
السلطان سليمان القانوني، ولكن ما يثبت تزوير ختمه لم يصل للسلطان إلا بعد قتل الأمير.
محاولة الأمير مصطفى الوصول للعرش
لم يغفل
الأمير عن محاولات رستم باشا و” خُرَّم سلطان” منعه من وصوله للعرش. ولذلك حاول
الأمير تدعيم موقفه وتشكيل جبهة من الأعوان تكون مساندة له للوصول للعرش إذا ما توفِّي والده
السلطان سليمان القانوني، فلم يكن في نية
الأمير الانقلاب على السلطان، بل كان هدفه تشكيل جبهة مساندة، ولذلك أرسل لإياس باشا والي أرضروم يطلب منه تأييده كسلطان للدولة خلفًا لأبيه، وقد أيَّده إياس باشا بنص مكتوب. وعلى الناحية الخارجية، فقد حال
الأمير دعم موقفه بقوى خارجية أيضًا، تكون مساندة له للوصول للعرش. وفي سبيل ذلك أرسل لسفير البندقية الموجود بإسطنبول يطلب منه الدعم الدولي. ورغم أن هدف
الأمير مصطفى كان واضحًا. فإن ما أشيع في البندقية هو رغبة
الأمير في عقد صفقة يكون له التدريب من البنادقة على الأسلحة والأساليب الحربية الحديثة إذا ما وصل للعرش، وفي المقابل يعاد إليهم حصن المورة.
مقدمات مقتل الأمير مصطفى
لم يكن هناك أي احتمالية لدى الشعب بتولِّي أمير آخر للحكم بدلًا من
الأمير مصطفى. ورغم ذلك لم يرَ
الأمير ضرورة للخروج على والده
سليمان القانوني، بل كان مخلصًا ومنفذًا لجميع قراراته. إلا أن الوشايات والإشاعات التي روجها رستم باشا أضعفت موقف
الأمير أمام السلطان، ما عجل بنهايته. وآخر الأحداث التي تسببت في مقتل
الأمير هي الحملة العسكرية التي ترأسها رستم باشا، وكانت موجهة بأمر
السلطان إلى الدولة الصفوية لرد اعتدائه على الدولة العثمانية. وصل رستم بحملته إلى ولاية قونيا الواقعة بوسط الأناضول، وقد خرجت في ذلك الوقت إشاعات تفيد بأن هناك من يدعو
الأمير للخروج على رأس الجيش بدلًا من رستم، وعدم الالتزام بتعليمات والده، وأنه الوقت المناسب لتولِّي قيادة جيوش الإمبراطورية الكبيرة. ولكن
الأمير مصطفى لم يفكر في القيام بذلك. فلم يكن لديه رغبة بالخروج على أوامر
السلطان سليمان القانوني، أو الخروج على قائد جيوشه. وحسب رواية سفير البندقية عن ذلك الحدث يقول إن عساكر الإنكشارية أخبروا رستم برغبتهم في زيارة أماسيا لمقابلة
الأمير مصطفى باعتباره
السلطان القادم للإمبراطورية، إلا أن طلبهم قوبل بالرفض من رستم باشا، ولم يسمح لهم بالذهاب والتخلف عن صفوف الجيش، إلا أن القسم الأكبر منهم ذهب لزيارة
الأمير الذي قابلهم بترحاب وأكرم ضيافتهم، ولكن لم يطل الضيافة لكي يلحقوا بالحملة في قونيا. ورغم حرص
الأمير مصطفى في عدم تخلف الإنكشارية عن الحملة، فإن رستم باشا حاول استغلال الموقف ضد الأمير. كما حاول تشويه موقف
الأمير أمام السلطان. فأرسل للسلطان بعصيان الإنكشارية له وذهابهم للأمير، وحاول بث الريبة والشك في صدر السلطان. فأخبره بأن
الأمير قد يحاول جذبهم لطرفه ليتمكن من الانقلاب عليه، في الواقع كان لوشاية رستم وقع سيئ في صدر القانوني. فقرَّر الخروج على رأس الجيش وقيادته بنفسه، ومن وراء ذلك رغبته في القضاء على
الأمير العاصي.
موقف الشعب من مقتل الأمير مصطفى
وصل
السلطان سليمان القانوني لمنطقة أرغلي، وطلب حضور
الأمير مصطفى، وقد كان هناك كثير من النصائح بعدم ذهاب
الأمير لملاقاة
السلطان خوفًا عليه من البطش به بعد وشاية رستم باشا. إلا أن
الأمير وجد أن عدم ملاقاة
السلطان عصيان له وأبى ألا يفعل؛ فذهب إليه. وتحرك بالفعل متوجهًا نحو
السلطان على متن حصانه، إلى أن وصل لخيمة أبيه، وليس له علم بما سيُواجه بالداخل. وبمجرد دخول
الأمير انحنى تعظيمًا وإجلالًا له، إلا أن السيف سبق العذل، فلم يمهله أحد للدفاع عن نفسه. وقتل
الأمير أمام والده لتبقى النقطة السوداء في تاريخ أعظم سلاطين الدولة العثمانية. فانتهت حياة
الأمير البريء عام 1553م، ولكن لم يمر مقتله مرور الكرام. فقد أثار مقتله غضب الشعب والإنكشاريين والجيش أيضًا. وكانت كل الاتهامات موجهة لرستم باشا بالتسبب في مقتل الأمير. وما كان من
السلطان إلا عزل رستم وتولية قارا باشا بدلًا عنه. ولكن بعودة
السلطان سليمان القانوني من حملته عام 1555 أعاد رستم باشا لمنصبه. وفي الوقت نفسه لم تهدأ ردود الأفعال، وكان منها خروج شخص يدعي أنه
الأمير مصطفى! ولشدة الشبه بينهما ادَّعى أنه
الأمير وله الحق في تولِّي السلطنة، ولكن لم يدم بقاءه طويلًا، فتم القبض عليه وأرسل لإسطنبول لإعدامه. ولكن لم ينتهِ الأمر بالقضاء على
الأمير المُزيَّف، فخرج كثير من الشعراء يحتجُّون على مقتل مصطفى. وقاموا بهجاء رستم باشا و” خُرَّم سلطان” اللذين تسبَّبا في مقتل الأمير.
حقيقة عصيان الأمير
على الرغْم من توضيح الأسباب التي أدَّت لمقتل
الأمير مصطفى، فإن هناك كثيرًا من التساؤلات التي لم يكن لها جواب شافٍ، فكيف لسلطان كان الأعظم بين سلاطين إمبراطورية عظيمة، وكان من العارفين بالقانون والعاملين به، أن يقدِم على قتل
ابنه وخليفته في حكم البلاد؟ هل يمكن لبطانة
السلطان التأثير عليه لتلك الدرجة؟ وهل كانت زوجات السلاطين من الطمع والجشع لتصل بهن الحال لتشويه العلاقة بين السلاطين وأبنائهم؟ الحقيقة أن التاريخ يذكر كثيرًا من الحوادث المُشابهة، التي بدأت بوشايات وانتهت بمقتل أشخاص غير مذنبين، لكن في حادثة مقتل
الأمير مصطفى ما يثير الدهشة هو وجود علاقة وطيدة بين
السلطان ووليِّ عهده، ما يدل على أن جهود بطانته في إحداث وقيعة بينه وبين
ابنه كانت جهودًا عظيمة، فما قامت به “خرَّم سلطان” ورستم باشا هي جهود كبيرة وعظيمة لا يقدر على القيام بها أحد. فقد استغل كل موقف لقلب
السلطان على ابنه، وأشاعوا الأكاذيب وأخفيا الحقائق لتشويه العلاقة بينهما. ودائما ما أعاد للسلطان
القانوني ذكريات انقلاب والده
السلطان سليم الأول على والده وقتله أخويه لتولي العرش. فكل تلك الذكريات والأحداث القابعة في نفس
السلطان سليمان القانوني كانت دافعا له للقضاء على
الأمير مصطفى قبل أن ينقلب عليه. فكان
القانوني يرى في قتله لمصطفى قضاء على خائن يتحالف مع أعداء الدولة ويسعى لعزله عن العرش.
هل سعى الأمير مصطفى حقاً للوصول للحكم؟
وفي الحقيقة، أنه لم يوجد تاريخيًّا ما يثبت على
الأمير مصطفى رغبته في الوصول للعرش في حياة والده، أو ما يثبت تحالفه مع الأعداء، فكل ما ثبت هو محاولته لكسب دعم مؤيدي لمساعدته للوصول للحكم بعد موت
سليمان القانوني. بعد التَّعرُّف على قصَّة مقتل
الأمير مصطفى، شاركنا برأيك حول الأحوال السياسيَّة التي تتسبَّب عمومًا في حدوث مثل هذه القضايا.