العاقل من تفكَّر في مآله، والموفَّق من جد واجتهد في صالح أعماله، نظر في المصير، فجانب التقصير، خاف من ذل المقام بين يدي الملك العلَّام، فاجتنب الحرام وهجر الآثام، ولله در أقوام إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، نظروا في عيوبهم، فاستغفروا لذنوبهم، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون؛ {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136].
من بادر الأعمال استدركها، ومن جاهد نفسه ملكها، ومن سار على الطريق سلكها، ومن طلب التقوى بصدق أدركها؛ {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 39، 40]، ها هي التوبة قد فتحت لنا أبوابها، وحل بيننا زمانها، وآن أوانها، فهلم لنجدد توباتنا، هلم لنفرَّ سراعًا إلى مولانا ومالك أمرنا؛ فهو القائل سبحانه: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39]، فأدعوكم أحبتي في الله ونفسي، أدعوكم لأن نفتح صفحةً جديدةً مع الله، ولتكن صفحةً بيضاءَ مشرقة، نبدؤها بتوبة ناصحة صادقة، ونية وعزيمة محققة، وألَّا نفرط فيها كما فرطنا في الفرص السابقة، فرحِم الله عبدًا سارع إلى طاعة ربه ومولاه، واتخذ قرارًا عازمًا وغلب هواه؛ فكان له من عظيم الأجر ما تقر به يوم القيامة عيناه: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56].
ثم أن التوبة ليست لمغفرة الذنوب فقط، بل هي بذاتها عبادة جليلة مستقلة، مطلوبة من الجميع، من المحسن والمسيء، من المذنب وغير المذنب، فالجميع مطالَب بالتوبة، وبشكل دائم ومتجدد، وفي كل وقت وحين؛ تأمل قول الحق جل وعلا: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة»، فإذا كان هذا حال سيد البشر، ومن غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما الذي ينبغي أن يكون عليه حال المقصرين أمثالنا؟ .
ثم إن التوبة من أحب الأعمال الصالحة إلى الله؛ ففي الحديث الصحيح: «لَلَّهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبده من أحدكم إذا استيقظ على بعيره، قد أضله بأرض فَلاة»، وإذا كان الجميع مطالب بالتوبة؛ بنص قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، فهذا دليل على شدة أهميتها، وعلى أن الجميع في أمَسِّ الحاجة إليها، وكما أن الجميع في احتياج متجدد للهداية، فهم يدعون الله باستمرار: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، فهم كذلك جميعًا في احتياج متجدد للتوبة. فجددوا توبتكم، وتداركوا بصادق الرغبة ما فاتكم، واحذروا الغفلات؛ فإنها درَكات، وبادروا نفيس الأوقات قبل الفوات، واستكثروا من الطاعات والصالحات، ونافسوا في الخيرات والمكْرُمات، وتعرضوا للرحمات والنفحات، والجِدَّ الجد تغنموا، والبِدار البدار ألَّا تندموا؛ {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56].