إن الله تعالى شرع الصيام، لنتزوَّد من الإيمان، ويتضاعف رصيدنا من الحسنات والإحسان، إن الله تعالى منَّ علينا برمضان، لنجدِّد العهد مع الله، لنزكِّيَ نفوسنا لله، لنصلح قلوبنا ابتغاءَ مرضاة الله.
إننا نصوم لنعيش جوًّا إيمانيًّا جميلًا، ننتقل فيه من الغفلة إلى الإيمان واليقظة، ننتقل فيه من التقصير إلى التشمير، ومن الكسل إلى الجد والعمل، ومن الإدبار إلى الإقبال، ومن الإحجام إلى الإقدام، ومن البخل إلى العطاء، ومن الانفلات إلى الانضباط، لكنَّ لصوصًا كبيرة، ظاهرة وخطيرة، تسرق صيامنا وتضيع علينا ذلك كله، وتحول بيننا وبين الوصول إلى الله، فإذا لم ينتبه العبد إلى هذه اللصوص، خَسِرَ كلَّ شيء وخرج من رمضان مفلسًا مغبونًا مأزورًا غير مأجور.
الذنوب والمعاصي: أتى رمضان ليغتسل العاصي من المعاصي، لا ليبارز ربَّه بالمعاصي، أتى رمضان ليقول للدنيا كلها: أنا شهر العتق من النار، فأين الفرار إلى العزيز الغفار؟ الذنوب تطمس على القلوب، فلا يستطيع المسلم بسببها أن يصل إلى ما يريد؛ قال عز من قائل: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]. وقال صلى الله عليه وسلم: إن العبد إذا أخطأ خطيئة، نُكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه، وهو الرَّان الذي ذكر الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[1]؛ أي: بسبب ذنوبهم ومعاصيهم صارت حيلولة بينهم وبين البر.
وأظهر المعاصي التي تسرق الصيام وتحرم أجره:
أ- القلب الملوَّث.
ب- اللسان المنفلت.
ت- العين الزائغة.
ث- الأذن السماعة.
فالقلب الملوث: هو ذاك القلب المشحون بالأهواء، هو القلب الذي مَسَّ صاحبه العُجب وفتك به الحسد، وأهلكته البغضاء والشحناء، هو القلب الذي حجبه التعصب، وأرداه سوء الظن بالمسلمين، ورحِم الله عبدًا امتلأ قلبه إيمانًا ويقينًا، فانعكس ذلك على جوارحه، طلبًا لكل خير، وهربًا وبعدًا عن كل شر، فإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب[2].
واللسان المنفلت: هو ذاك اللسان الذي يخوض في الباطل والمراء والجدال بغير حق، هو ذاك اللسان الذي يهتك أعراض المسلمين بالغيبة والكذب والنميمة، والتدخل فيما لا يعني، والسخرية وإفشاء الأسرار، والوعود الكاذبة، هو اللسان الذي لا يستحيي صاحبه من أن يقول على الله بغير علم. فإذا ما أطلق العبد العنان للسانه، فإنه يأتي على رصيده الرمضاني فيذرُه قاعًا صفصفًا، فرحم الله عبدًا قال خيرًا فغنم، وسكت عن شر فسلم، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت[3].
والعين الزائغة: هي تلك العين التي أَطلق صاحبها لها العنان تشاهد ما تشاء وتنظر إلى ما تشاء بلا وازعٍ من تقوى، ولا رادع من خشية، مع أن شهر الصيام فرصة عظيمة للمبتلَى بذلك؛ كي يتغلب على بلواه هذه، ويقهر دواعي الشهوة لديه، ويتدرب على عبادة غض البصر، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30 -31]، فإذا أطلق العبد بصره بلا حساب فسَد صومه، وخرج من الموسم المبارك ببضاعة مزجاة.
والأذن السماعة:هي تلك الأذن التي لا تبالي بسماع المنكر، من موسيقا وصخب وغناء وطرب، وغيبة ونميمة ووشاية ونحوها. فرحم الله عبدًا امتثل هذه الآية: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55].
رفقاء السوء: الذين يصرفونك عن طاعة الله، ويشغلونك عن العمل الصالح، ويُلهونك عن فعل الخير، ويضيعون وقتك - وهو رأس مالك - دون أن تكتسب فيه ثوابًا، أو تزداد فيه ربحًا، فضلًا عن أن يضيع هذا الوقت فيما حرَّم الله. الرفيق بهذا المعنى رفيق سوء، يسرق صيامك، ويضيع طاعتك، فيتحتم على العاقل أن يبتعد عنه؛ قال عزَّ من قائل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 – 29].
وقال صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل» [6].
فليحذر العاقل، ولينتبه المؤمن، ولا يغامر بدينه ولا يخاطر بأخلاقه ونفسه، ولا يصاحب من ليس مرضيًّا في دينه وخلقه. فكم من إنسان تحطَّم وانتكس! كم من إنسان تهدَّمت حياته وانسلخ من دينه وقِيمه وأخلاقه! كم من إنسان نسِي ربه، وعقًّ والديه، وانغمس في الملذات والشهوات، وتاه مع المسكرات والمخدرات، وأضاع الصلوات، وفشِل في حياته العملية والزوجية وغيرها بسبب الصحبة السيئة!
وفي المقابل كم من إنسان سعد في الدنيا والآخرة بسبب الصحبة الصالحة.
الكرة (معبود العصر): كرة القدم:
تحتلُّ صدر حياتنا وحديثها في كل فمٍ ** وهي الطريق لمن يريد مكانة فوق القمم
أرأيت أشهر عندنا من لاعبي كرة القدم ** أهم أشد توهجًا أم نار برق في علــــــــم لهم الجباية والعطاء بلا حدود والكــرم **
لهم المزايا والهبات وما تجود به الهِمــمُ الناس تسهر عندها مبهورة حتى الصبـــــــــــاح
وإذا دَعا داعي الصلاة وقال حي على الفـــــلاح غط الجميع بنومهم
فوز الفريق هو الفـــــــــلاح فوز الفريق هو السبيل إلى الحضارة والصــــلاح
صارت أجلَّ أمورنا وحياتنا هذا الزمـــــــــــــــــن ما عاد يشغلنا سواها في الخفاء وفي العلـــــــــن
أكلت عقول شبابنا ويهود تجتاح الأمـــــــــــــــــم
وهذا لعمر الله العبودية لغير الله، وتعظيم غير الله، عشرون مجنونًا يجرون خلف قطعة من الجلد، وملايين البشر يتفرجون، وعن صلاتهم غافلون، وعن ذكر ربهم لاهون، وهم في غفلة معرضون، ولمكر الله آمنون، {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 – 99].
لص كبير هجم على حياتنا خاصة في رمضان، سرقت الذكر، والقرآن، وصلاة التراويح، وربما صلاة الجماعة، وإنا لله وإنا إليه راجعون. عندما تكون الرياضة وسيلة لغاية سامية فنعمَّا هي، ولكن عندما تتحول الوسيلة إلى غاية فتلك هي المصيبة، ولذلك أقول: مشاهدة الكرة أو ممارستها ليس ذلك حرامًا، بشروط:
1- ألا يضيِّع ذلك واجبًا كالصلاة، ومجالس العلم.
2- أن يحافَظ فيها على ستر العورات.
3- ألا يصحب ذلك عصبية، أو سوء خلقٍ قولي أو فعلي.
4- أن يعدَّها العبد من الترفيه المباح.
5- ألا يكون ذلك عادة الإنسان فيضيع عمره.
التلفزيون، والقنوات الفضائية، ومواقع التواصل الاجتماعي: سُرَّاق محترفون، يسرقون روحانيات الشهر وفرص الأجر، ويفتحون أبوابًا للوزر.
شهر رمضان الذي عاشت فيه الأمة انتصاراتها، شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن العظيم محفوظًا بحفظ الله، شهر رمضان الذي فضَّله الله على سائر الشهور، أمسى في زماننا عند كثير من الناس محطةً للهو واللعب ومعاقرة الشهوات والإسراف فيما حَرَّم الله، رمضان الذي يأتي في السنة مرة واحدة كفرصةٍ للمفرِّطين في أمور دينهم للعودة إلى الطريق السوي ومحاسبة النفس، صِرنا نقضيه أمام اللهو والعبث، صرنا نقضيه أمام ما يدعو إلى الرذيلة من أفلام آثمة وسهرات فاضحة وملابس خليعة، وعبارات مثيرة وأوضاع يندى لها الجبين، فمع أذان المغرب رقصٌ ونقصٌ باسم فوازير رمضان، ومع أذان العشاء وصلاة التراويح، مسلسلات وحلقات لا نهاية لها، وبعد التراويح تبدأ كافة فتن الأرض في برامج سهرات رمضانية، وعند اقتراب صلاة الفجر تُطل علينا تلك القنوات بحسن الختام، القرآن الكريم!! فحُقَّ للغيور أن يتساءل: ما هذا البلاء؟ كيف يرضى ذو الشهامة من الرجال وذوات العفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم ولفتياتهم وفتيانهم هذا الغثاء المدمِّر؟ أين ذهب الحياء؟ أين ضاعت المروءة؟ أين الغيرة في بيوت هيَّأت للناشئة أجواءَ الفتنة وجرَّتها إلى الفحشاء جرًّا؟ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
ما نجني من وراء ذلك إلا:
1- زعزعة عقيدة التوحيد في النفوس المسلمة.
2- ترك الصلوات أو تأخيرها عن وقتها.
3- الدعوة إلى التبرج والاختلاط.
4- إطلاق السمع والبصر إلى ما حرَّم الله.
5- إشاعة الفاحشة في المجتمعات المسلمة.
الإسراف في الطعام والشراب: إن مما يُحزن القلب أن كثيرًا من الناس فهموا رمضان على غير المراد منه، وعاشوه بطريقة غير التي أرادها الله!! فبدلًا من أن يكون رمضان شهرَ طاعة وعبادة وصبر، صار شهر التخمة والسمنة وأمراض المعدة! بدلًا من أن يكون شهر إحساس بالفقراء والجوعى، صار شهر الانغماس في الملذات والشهوات!! بدلًا من أن يستعدون لرمضان بعمل البرامج النافعة التي بها تُرفع درجاتهم وتُغفر خطاياهم وذنوبهم، صاروا يستعدون له بألوان المطعومات والمشروبات التي لا يعرفونها في غير رمضان، وهذا بلا ريب ينافي الحكمة من مشروعية الصيام!! وما أصدق قول بعضهم: إنكم تأكلون الأرطال، وتشربون الأسطال، وتنامون الليل ولو طال وتزعمون أنكم أبطال. فالمقصود أن على الناس أن يكونوا معتدلين في مطاعمهم ومشاربهم في رمضان؛ قال عز من قائل: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صُلبه، فإن كان لا محالة، فثُلث لطعامه وثُلث لشرابه وثُلث لنفسه.
السهر: لص كبير وعادة قبيحة، نشأ عليها الصغير ودرج عليها الكبير، فكثير من الناس جعل الليل للسهر واللهو واللعب والزيارات، وجعلوا النهار للنوم والراحة والاسترخاء، فخالفوا بذلك نواميس الطبيعة التي خلقها الله، وضيَّعوا بذلك مصالح عديدة دينية ودنيوية، ووقعوا كذلك في الحرج والإثم إن كان سهرهم على المنكرات والمعاصي. فليالي الشهر الكريم عند أولئك المحرومين من القيام والبكاء من خشية الله والتذلل بين يديه، انقلبت إلى ليالي ميِّتة مُلئت باللهو والعبث، أما نهاره فتحوَّل من شهر الصوم والصلاة والصبر والذكر والقرآن إلى شهر النوم والكسل والخمول وإضاعة الصلوات!! قال الحسن البصري: جعل الله شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون[7].