قوله تعالى:﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].
قوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾؛ أي: فُرض وأُوجِب عليكم أيها المؤمنون القتال في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، ونشر دينه، والدفاع عن حوزة الإسلام، وعن حرمات المسلمين، وهو فرض كفاية، وقد يتعين في بعض الأحوال.
وبُني الفعل «كتب» لما لم يسم فاعله؛ لأن الذي كتب ذلك وأوجبه وفرضه معلوم، وهو الله عز وجل.
قال صلى الله عليه وسلم: «من مات، ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق»
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا».
﴿ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾ الواو: للحال، والجملة في محل نصب على الحال، أي: ﴿ وَهُوَ﴾ أي: القتال ﴿ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾ «كُرْه» مصدر بمعنى اسم المفعول، أي: وهو مكروه لكم، تكرهه النفوس البشرية من حيث طبيعتها، لما فيه من التعرض للقتل، ومجالدة الأعداء، والمشقة والنصب، والجراح، وبذل المال، وغير ذلك.
والنفوس - بطبيعتها البشرية - قد تكره ما هو دون القتال من التكاليف، وفي الحديث: «حفت الجنة بالمكاره».
لكن المؤمن لا يكره ما أوجبه الله وأمر به، من القتال وغيره، بل يحبه لما فيه من مرضاة الله، وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة - حتى وإن كرهته النفس بطبعها - قال تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾ [الحجرات: 7].
والمؤمن في هذا، في جهاد مع نفسه، وهواه وشيطانه، قبل جهاد الكفار
وقوله: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ﴾، هذا عام في الأشياء كلها من أمور الدين والدنيا، فقد يكره المرء الشيء كالقتال أو غيره، وهو خير له؛ لما يعقبه من العز والنصر والتمكين للمسلمين في الدنيا، ودخول الجنة في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾.
وقد يحب المرء الشيء، كالقعود عن القتال، وهو شر له؛ لما يعقبه من ضعف المسلمين، وتسلُّط الأعداء عليهم، ومن التعرض لعذاب الله الذي توعَّد به القاعدين عن القتال؛ كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التوبة: 39]، وقال تعالى: ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ .
والخير كل الخير في محبة أوامر الله - عز وجل - وامتثالها من القتال في سبيل الله وغير ذلك، وكراهية ما نهى الله عنه واجتنابه، والتسليم لأمره، والخيرة فيما يختاره الله للعبد، مما يوجب التسليم لأمره .
﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ هذه الجملة كالتعليل لما قبلها، وحذف مفعول «يعلم» ليعم كل شيء؛ أي: والله يعلم كل شيء سبحانه وتعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98]، وقال تعالى: ﴿ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الأنعام: 80]، ومن ذلك ما هو خير لكم، وما هو شر لكم، وما يصلح العباد في دينهم ودنياهم وأخراهم من الأحكام الشرعية والكونية والجزائية وغير ذلك.
﴿ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ الواو: عاطفة، أي: وأنتم لا تعلمون ما هو خير لكم، وما هو شر لكم، فقد تكرهون ما هو خير لكم، وقد تحبون ما هو شر لكم بسبب عدم علمكم.
والأصل في الإنسان الجهل وعدم العلم إلا ما علمه الله - عز وجل - كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78]، وقال تعالى: ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 5]، وقال تعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾ [النساء: 113].
فهو عز وجل عندما فرَض القتال وأوجبه، يعلم أن ذلك خير للعباد في دينهم ودنياهم وأخراهم، وهم قد يكرهون ذلك؛ لأنهم لا يعلمون وجه المصلحة في ذلك، مما يوجب التسليم لله في ذلك كله، والاستجابة له، والانقياد لأمره.
وفي هذا حضٌّ على القتال في سبيل الله، وترغيب فيه، كما أن فيه ما يسلي المؤمن ويطمئنه، فلا يكره شيئًا مما قضاه الله، شرعًا أو قدرًا، ويصبر على ما ناله في ذات الله، ولا يأسى على ما فاته من محبوبات الدنيا، أو يُلحف في طلبه، أو يفرح بحصوله، فرح بطر واختيال، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11]، وقال تعالى: ﴿ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ﴾ [الحديد: 23].
قال ابن القيم: «في هذه الآية عدة حكم وأسرار، ومصالح للعبد، فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه، لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييئَس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة؛ لعدم علمه بالعواقب، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد- أوجب له ذلك أمورًا:
منها: أنه لا أنفع له من امتثال أمر ربه، وإن شق عليه في الابتداء؛ لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات، ولذات وأفراح، وإن كرهته نفسه، فهو خير لها وأنفع، وكذلك لا شيء أضرُّ عليه من ارتكاب المنهي، وإن هويته نفسه، ومالت إليه، وأن عواقبه كلها آلام وأحزان، وشرور ومصائب، وخاصية العاقل تحمُّل الألم اليسير، لما يعقبه من اللذة العظيمة، والخير الكثير، واجتناب اللذة اليسيرة، لما يعقبها من الألم العظيم، والشر الطويل.
فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غايتها، والعاقل الكيس دائمًا ينظر إلى الغايات، من وراء ستور مباديها؛ فيرى ما وراء تلك الستور، من الغايات المحمودة والمذمومة، فيرى المناهي، كطعام لذيذ، قد خلط فيه سم قاتل، فكلما دعته لذته إلى تناوله، نهاه عنه ما فيه من السم، ويرى الأوامر كدواء مر المذاق، مفض إلى العافية والشفاء، وكلما نهاه مرارة مذاقه عن تناوله، أمره نفعه بالتناول.
ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم، تدرك به الغايات من مبادئها، وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمّل مشقة الطريق، لما يؤمل عند الغاية، فإذا فقد اليقين والصبر، تعذر عليه ذلك، وإذا قوي يقينه وصبره، هان عليه كل مشقة، يتحملها في طلب الخير الدائم، واللذة الدائمة.
ومن أسرار هذه الآية: أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يختاره له، ويقتضيه له لما يرجو من حسن العاقبة.
ومنها: أنه لا يقترح على ربه، ولا يختار عليه، ولا يسأله ما ليس له به علم، فلعل مضرته وهلاكه فيه، وهو لا يعلم، فلا يختار على ربه شيئًا، بل يسأله حسن الاختيار له، وأن يرضيه بما يختاره، فلا أنفع له من ذلك.
ومنها: أنه إذا فوَّض إلى ربه، ورضي بما يختاره له، أمره فيما يختاره له بالقوة عليه، والعزيمة والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره ما لم يكن ليصل إلى بعضه، بما يختاره هو لنفسه.
ومنها: أن يريحه من الأفكار المتعبة، من أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة، وينزل في أخرى، ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور، ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم عنده، غير ملطوف به فيه، مع اختياره لنفسه. ومتى صح تفويضه ورضاه، اكتنفه في المقدور العطف عليه، واللطف به، فيصير بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يهون عليه ما قدره.
إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه: تحيله في رده، فلا أنفع له من الاستسلام، وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحًا كالميت، فإن السبع لا يرضى أن يأكل الجيف».
وقال أيضًا: «فهذه الآية تضمنت الحض على التزام أمر الله، وإن شق على النفوس، وعلى الرضا بقضائه وإن كرِهته النفوس».