عاش أحمد بن حنبل يتيما، فاختارت له أمه تربية إيمانية عميقة، وخطت له طريق الإمامة في الدين والريادة في معارف الوحي قرآنا وسنة، فأخذ في طلب العلم وهو لم يبلغ 15 عاما على شيوخ أهل الحديث مثل الإمام هشيم بن بشير الواسطي.
وبعد أن نهل من معارفه، وأحاط بما لدى شيوخ بغداد من علم الآثار النبوية، بدأ الرحلة في طلب العلم خارج بغداد، وهو تقليد علمي دأب عليه علماء المسلمين منذ القدم إلى اليوم.
وقد شملت رحلة ابن حنبل الحجاز وتهامة واليمن والبصرة والكوفة، ونهل من معارف العلماء الأجلاء الذين أدرك بعضهم الأجيال المتأخرة من كبار التابعين وربما من الصحابة أيضا، وكان ممن أخذ عنهم عبد الرحمن بن مهدي، وعمير بن عبد الله بن خالد، والقاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، وسفيان بن عيينة، والشافعي وغيرهم من جهابذة العلماء.
وقد كانت رحلته إلى صنعاء للقاء الشيخ عبد الرزاق بن همام رفقة يحيى بن معين عنوانا بارزا من عناوين الصبر والمثابرة، وقصصا من أروع قصص الرحلات العلمية في تاريخ علماء المسلمين.
وقد تكررت رحلات ابن حنبل في تهامة والحجاز واليمن، وفي بعض الأحيان كان ذلك بمعية رفيق دربه يحيى بن معين، وفي أحيان كثيرة كان يسير مسافات هائلة على قدميه دون مال ولا زاد غير العزيمة.
وفي الأربعين من عمره جلس للإفتاء وإملاء الحديث الشريف بجامع بغداد، وتوسعت حلقته العلمية وانتشر صيته، حتى قيل إن أكثر من 5 آلاف شخص كانوا يحضرون درسه، ويكتبون من إملائه، مشدوهين بتدفق علمه، ومشدودين إلى نورانيته وألقه الروحي وإبائه النفسي وسمته الرباني الرائق. وفي أربعينيته أيضا تزوج أم ابنه صالح وهي العباسة بنت الفضل، وأقامت معه ثلاثين سنة في جو من الحب والصفاء والتكامل الأسري الوارف الظلال، حتى نقل عنه قوله: أقامت معي أم صالح ثلاثين سنة، فما اختلفت وإياها في كلمة.كان للإمام أحمد بن حنبل فضاءان للتدريس، فكانت له حلقة في بيته لأولاده وخاصة تلاميذه، وكانت الأخرى في المسجد يحضر إليها العامة والتلاميذ، ويصطف فيها آلاف التلاميذ وآلاف الأقلام والمحابر.
وقد عرف عنه وقاره الشديد، فلم يكن له في المزاح حظ ولا له إليه سبيل، ولم يكن طلابه يجرؤون على ممازحة بعضهم في حضرته، بل كان شيوخه يهابون المزاح، إذ كان جبل وقار وتؤدة وهدوء نادر.
ومع حفظه النادر فقد كان حريصا على أن لا يحدّث إلا من كتاب، حرصا على الدقة في نقل الحديث، رغم أنه كان إمام بغداد حفظا وسيادة وريادة في علوم الشريعة، وينقل عنه ولده عبد الله قوله: ما رأيت أبي حدث من حفظه من غير كتاب إلا بأقل من مئة حديث.
وإلى جانب ما عرف عنه من وقار وهيبة، فقد كان أيضا آية في التواضع ونكران الذات، وكان حريصا على أن لا تدون آراؤه الفقهية وفتاواه واستنباطاته، وكان يغضب أشد الغضب إذا نقل إليه أن بعض تلاميذه دوّن آراءه في كتب الفقه والخلاف المذهبي السائد يومها.وقد زين ابن أبي دؤاد وجماعته للمأمون حمل الناس بالسيف على القول بخلق القرآن، ووزعوا رسالة أميرية إلى ولاة الأقاليم جاء فيها وفق ما تنقل كتب التراجم: اجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ولا واثق في من قلده واستحفظه من رعيته بمن لا يوثق بدينه، وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس، ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع عن توقيعها عنده، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم، والأمر لهم بمثل ذلك، ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين، والإخلاص للتوحيد.
ولما تباينت الردود، أخذ المأمون الناس بالحزم، وبدأ الرعب يهز قلوب الفقهاء، فأجابوا المأمون إلى القول بخلق القرآن، ولم يبق منهم غير أربعة أصروا على موقفهم، قبل أن يتراجع منهم اثنان، ويبقى اثنان آخران هما أحمد بن حنبل والفقيه محمد بن نوح المضروب، فنقلا مكبلين في الأغلال إلى سجن في مدينة طرسوس، وفي الطريق قضى محمد بن نوح نحبه وغادر الدنيا قبل أن يواجه المأمون، ولم يطل الأمر حتى مات المأمون أيضا قبل أن يصل إليه أحمد بن حنبل، ليتولى كبر أزمة خلق القرآن خليفته من بعده المعتصم ثم الواثق، وفي عهدهما بلغت محنة أحمد أوجَها، ونال من السجن والعذاب الصنوف المؤلمة، ولكنه واجهها بعزم راس، وعقيدة راسخة، لم يُذبل نضارتها التخويف ولا البطش والسجن والإرهاب، ولا الإغراء والوعد والتزيين.كانت وجبات التعذيب اليومية أيام المحنة مشكلة من صنوف متعددة، تتضمن الضرب بالسياط حتى يغمى على الإمام، والنخس بالسيف حتى تسيل دماؤه الطاهرة، قبل أن يفرج عنه ضعيف البنية خائر القوة شديد العزم، ليخضع بعد ذلك لإقامة جبرية في بيته عدة سنين.
ومع عهد الواثق بدأت محنة أخرى، لكنها أخف أثرا من سابقتها، فلم تصل حد التعذيب، لكنها كانت حصارا فكريا شديدا وتحجيرا على الإمام، فقد مُنع من محادثة الناس والصلاة بهم وإفتائهم، ليلزم بيته قرابة سنتين، قبل أن تنفرج الأزمة مع وصول المتوكل إلى الحكم، فوضع حدا لتلك الأزمة العصيبة، لتنتهي بذلك المحنة ويزول سلطان التعسف الفكري.لم تطل إقامة الإمام بن حنبل في الدنيا بعد المحنة المؤلمة، فقد خرج منها منهك الجسم، ليقتص المرض ما بقي من قوته، وليغادر عالم الأحياء سنة 241 للهجرة عن قرابة 77 سنة كانت حافلة بالوقار والجلال وهيبة العلم وسلطان الصمود، وقد ترك خلفه مؤلفات كثيرة أشهرها كتاب “المسند” الذي يعتبر أحد أهم مجاميع الحديث الشريف.
وفي القلوب وفي شغاف الزمن ودواوين التاريخ وسير العظماء كان لابن حنبل مكان سامٍ في ذاكرة الأيام، وتاريخ الأفذاذ الذي عرفوا الله ولزموا ما عرفوا، وكان له الشأو العالي في الصراع الدائم بين المداد والعتاد، وبين الفكر والسلطان والسيف والقلم.