استطاع روبوت المحادثة شات جي بي تي (Chat GPT) الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي (Artificial intelligence)، خطف الأضواء منذ إصداره الأول في شهر نونبر 2022، بعدما أحدث ثورة غير مسبوقة في عالم الذكاء الاصطناعي بقدراته المذهلة في إجراء المحادثات والرد على الاستفسارات بطريقة لغوية طبيعية.
وقد استطاع شات (ChatGPT) بقدراته تلك، التفوق على جل التطبيقات المعروفة الأخرى من حيث الاستخدامات وسرعة الانتشار.
فقد أظهرت دراسة لبنك UBS السويسري أن تطبيق (ChatGPT) يأتي في مقدمة التطبيقات التي شهدت معدل ارتفاع قياسي في عدد المستخدمين منذ بدء الاستخدام الفعلي لشبكة الإنترنت قبل أكثر من 20 سنة.
وبات موقع الشركة OpenAI المالكة للتطليق واحدا من أكثر 50 موقعًا تمت زيارتها في العالم ووصل العدد اليومي لمستخدمي التطبيق خلال شهر يناير الماضي -فقط- ما معدله 13 مليون شخص.
فكيف استطاع هذا التطبيق المبرمج على النفعية والتفرد الآلي، الظفر بهذا الحجم الكبير من الاهتمام؟
تطبيق (ChatGPT) عبارة عن برنامج روبوت محادثة ذكاء اصطناعي، تم تطويره بواسطة شركة OpenAI وتم إطلاقه في نوفمبر 2022. وهو مبني على قمة مجموعات OpenAI's GPT-3 و GPT-4 لنماذج اللغات الكبيرة، وتم ضبطه بنهج (نقل التعلم Transfer of learning) باستخدام تقنيات التعلم تحت الإشراف المعزز.
تم إطلاق برنامج (ChatGPT) كنموذج أولي في 30 نوفمبر 2022 ، وسرعان ما جذب الانتباه لردوده التفصيلية والإجابات المفصلة عبر العديد من مجالات المعرفة.
تم إصدار (ChatGPT) في الأصل في نوفمبر 2022 باستخدام GPT-3 ، ولكن تم إصدار GPT-4، أحدث طراز (OpenAI)، في 14 مارس 2023 ، وهو متاح لمستخدمي (ChatGPT Plus) كخدمة مدفوعة.
وقد استطاعت الكثير من التطبيقات المعتمدة على تقنية (Chatbot) الوصول إلى مراحل متقدمة من التطوير، كان آخرها تطبيق (ChatGPT) الذي طوَّرته شركة (OpenAI) الأمريكية وأطلقته في شهر نونبر 2022.
وهو برنامج محادثة أو دردشة روبوتية مشابهة لمحادثات البشر يعتمد على الذكاء الاصطناعي (AI) للإجابة عن أسئلة المستخدمين وتزويدهم بالمعلومات وخدمات أخرى عند الطلب، ككتابة المقالات والأبحاث والبرمجة المعلوماتية والإنتاج الفني.
قد جاءت الحروف (GPT) المتضمنة في اسم التطبيق، والتي تعني اختصارًا: (Generative Pre-trained Transformer)، أي "المحوِّل التوليدي المُدرَّب مسبقًا"، إشارة إلى اعتماد التطبيق على تقنية "الذكاء الاصطناعي التوليدي Generative AI"، التي كان يجري تطويرها لسنوات بهدف توليد محتوى جديد اعتمادا على بيانات موجودة مسبقا.
كيف يعمل تطبيق ChatGPT ؟ |
يعمل تطبيق (ChatGPT) بتقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي، وتتراوح إمكانيات هذه التقنية من توليد الصور والأصوات والنصوص إلى مقاطع الفيديو، كما تعمل هذه التقنية على تدريب نموذج الذكاء الاصطناعي على مجموعة ضخمة من الإنتاج البشري كالكتب والمقالات والرسومات.
بحيث يستخدم النموذج هذه البيانات لتعلُّم الأنماط والعلاقات بين العناصر المختلفة الموجودة فيها، وبعد التدرّب على البيانات يمكن استخدام النموذج لتوليد محتوى جديد من خلال التنبؤ الصحيح بالعنصر التالي ضمن سلسلة من العناصر المحتملة.
فعلى سبيل المثال، لا يفهم الذكاء الاصطناعي معنى عبارة "ذهب التلميذ إلى المدرسة"، لكن من خلال تدريبه على ملايين النصوص، تتكون لديه قاعدة معرفية تتيح له التقدير بأن التلميذ هو فاعل والمدرسة هي مكان وأنها يجب أن تأتي مجرورة، ليس لأن الذكاء الاصطناعي يفهم ما هو الجر والمجرور، لكن لأنّه لاحظ أن الكلمات دائما ما تأتي مجرورة بعد حرف الجر "إلى" في النصوص التي تدرّب عليها، ومن ثَم يُصبح النموذج بعد التدريب الكافي قادرا على كتابة جملة مثلها حتى لو لم تكن تلك الجملة من ضمن البيانات التي تدرّب عليها سابقا.
لهذا لو تم تدريب نموذج الذكاء الاصطناعي على مجموعة من البيانات التي تتضمن مقالاتٍ إخبارية سيُصبح قادرا على توليد مقالات جديدة تُشبهها بحيث لا يمكن تمييزها عن المقالات المكتوبة بشريا.
ويُعتبر توليد النصوص حقلاً من حقول تقنيات الذكاء الاصطناعي يعتمد على ما يُعرف بـ"معالجة اللغة الطبيعية Natural Language Processing".
وتعمل خدمات توليد الصور بطريقة مشابهة اعتماداً على تقنية "الرؤية الحاسوبية Computer Vision"، إذ يستطيع الذكاء الاصطناعي توليد صور جديدة اعتمادا على صور موجودة سابقا دُرِّب عليها، فمثلا لو دُرِّب النموذج على صور تحتوي على وجوه يُصبح قادرا على توليد صور وجوه جديدة لا تُشبه تلك التي تدرب عليها لكنها تبدو واقعية للغاية.
تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي |
قبل ما يقرب من 15 سنة، كانت تطبيقات الكتابة الصوتية - تقريبا- ضربا من الخيال بحيث يمكن تحويل كلام صوتي بشري إلى كلام مكتوب على شاشة الكمبيوتر، فكانت تجربة برنامج (IBM via Voice) من بين التجارب التي سارت في هذا الاتجاه.
وهو برنامج يحاول فهم الصوت الذي يسمعه وتحليله إلى مقاطع نغمية تمكنه من تسجيل البصمة الصوتيَّة توازيا مع حفظ النص المقروء، فإذا سمع مقطعًا منها مرة أخرى شرع في عملية فكِّ تشفيره ليتمكَّن من استدعاء النصِّ المقابل له.
إضافةً إلى ذلك، يعمل البرنامج على تصحيح الكلمات التي تعرف عليها مسبقًا بصورة خاطئة من خلال سماعها من المستخدِم أكثر من مرة -تلقائيًّا- بنغمات صوتية ذات نُطْقٍ مُوحَّد للنص الواحد، وذلك قصد تحسين جودة ودقة فكِّ التشفير في أي عملية استدعاء لاحقة، وهي دقة لم تكن تتجاوز 80% مع أهميتها آنذاك.
ومنذ أن بدأ ربط التطبيقات والبرامج الحاسوبية بالإنترنت، ومِنْ ثَمَّ مشاركة استخدامها وتحديثها عبر الإنترنت من طرف جمهور عريض من المستخدمين طوال الوقت، أصبحت التطبيقات تتعلم المزيد والمزيد، بخلاف برنامج (IBM via Voice) الذي كان مُعلِّمه ومُدرِّبه هو المستخدم وحده، فكانت الحاجة إلى تقنية (Chatbot) التي يكون في إمكانها تدريجيًّا أنْ تُعلِّم نفسَها بنفسها من خلال الاستخدام المستمر لها عبر الإنترنت.
وتعد تطبيقات (Chatbot)، أو "الدردشة الروبوتية" من البرامج المصممة لمحاكاة المحادثات البشرية عبر الإنترنت بذكاء، من خلال الكتابة النصيَّة أو الصوتية أو تحويل النص إلى كلام أو العكس، وتستخدم في ذلك آلية فحص الكلمات المدخلة إليها وفرزها إلى كلماتٍ رئيسةٍ، ثم سحب الرد مع الكلمات الرئيسة الأكثر مطابقة والأفضل صياغة من النصوص المخزنة عليها في قاعدة البيانات. وغالبا ما تُدمَج هذه البرامج في أنظمة المحادثات لأغراض مختلفة.
وقد كان الاستخدام الأول لهذه التطبيقات في مجال خدمة العملاء من قبل الشركات التجارية الكبيرة وبعض مواقع الإنترنت التفاعلية التي تعتمد على تواصُل الجمهور مع بعضه، مثل: Facebook وTwiter و Telegram، إلى أن أصبح الاعتماد على هذه التقنية مشاعا في التطبيقات المستعملة في العديد من الشركات والمواقع وفئة معينة من المستخدمين.
ويعتمد تقييم جودة التطبيقات بتقنية (Chatbot) على ثلاثة عوامل أساسية:
مجالات استخدام تطبيق ChatGPT |
يوفر تطبيق (ChatGPT) إجابات على استفسارات المستخدمين بطريقة سريعة وذكية جدا تحاكي الطريقة التي يرد بها البشر، وتتعدى في ذلك محرك البحث Google أو مساعد جوجل الصوتي (Google Assistant) أو مساعد آبل سيري الصوتي Apple وغيرها.
وهذه الإمكانيات المتميزة لتطبيق (ChatGPT) تجعله قادرا على المساعدة في العديد من الاستخدامات، فمنذ صدوره قبل بضعة شهور، لم تتوقف وتيرة وتعدد استخداماته لتشمل العديد من المجالات المختلفة، ومن أهمها:
رواية قصص خيالية أو تعليمية أو أي نوع آخر من القصص حسب الموضوع والفئة العمرية المستهدفة ونوع الشخصيات ونوع القصة، بالإضافة الى:
شرح الموضوعات الفكرية المعقدة ببساطة -القيام بالبحث والتعمق في المواضيع الفكرية المختلفة وعرض النتائج والحجج من وجهات النظر المختلفة، وكذلك:
تزويد المتعلمين بالمعلومات على مدار الساعة وتحليل أدائهم وتحديد مجالات الضعف عندهم، بالاضافة الى:
اقتراح العلامات التجارية بما يناسب مجال العمل والأهداف – كتابة محتوى الإعلانات وترجمته بالصيغ المناسبة والشاملة التي تجذب انتباه الفئة المستهدفة، ومن ذلك:
تقديم الحلول والاقتراحات لتحسين الوضعية النفسية للمستخدم اعتمادا على ما يصرح به - بطريقة دقيقة - من أفكار ذهنية وأحوال نفسية ومشاعر وأحاسيس، وأيضا:
اقتراح خطط استراتيجية للمساعدة في عملية اتخاذ القرارات الحياتية اعتمادا على وضعية المستخدم وأهدافه في الحياة ، مثل:
استطاع تطبيق (ChatGPT) اجتذاب ملايين المستخدمين النشطين (ما يقارب 100 مليون مستخدم) بوتيرة سريعة جدا، مقارنةً بالمنتجات التقنية الأخرى، وقد أدى هذا الاهتمام الواسع بالتطبيق إلى تنامي رغبة عمالقة البرمجة في المساهمة في تطوير مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي والاستفادة منه، كما تؤكدها بعض المعطيات من الواقع:
والمستخلص من هذه الديناميكية التي أثارها ظهور تطبيق (ChatGPT) في ساحة التكنولوجيا، أن مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي سيطفو على المشهد بشكل تصاعدي في السنوات المقبلة وسيكون له التأثير البالغ على مستقبل العالم.
رغم الإمكانيات المثيرة للاهتمام التي يقدمها الذكاء الاصطناعي بصفة عامة، وتطبيق (ChatGPT) بصفة خاصة، فإنّ هذا لم يمنع ظهور الكثير من المخاوف والانتقادات لهذه التقنية منذ الشهور الأولى من إطلاقه، وتتوزع تلك المخاوف و الهواجس حول استخدامات التطبيق ببن المحاور الآتية:
كلما ذكر الذكاء الاصطناعي بصفة عامة ذُكرت معه المعايير الأخلاقية، فقد أدرك خبراء أخلاقيات الذكاء الاصطناعي مدى حساسية أن توضع تقنية شديدة التقدم وسريعة التطور كتطبيق (ChatGPT) بين أيدي الجمهور بلا رقابة، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من مشاكل متعددة، خاصة إذا ما تُرك المجال أمام البرنامج لتعليم نفسه بنفسه.
ويمكن تلخيص الهاجس الأخلاقي حول استخدام التطبيق في:
في ظل ما يقدمه تطبيق (ChatGPT) من مزايا توفر الجهد الكبير على الباحثين، يطرح السؤال عن مصير الدعائم التي ينبني عليها البحث العلمي: الأمانة العلمية، الموضوعيَّة، وضوح اللغة، الأصالة، التراكمية، التنظيم، الدقة والواقعية، وكذاك مصير ثوابت تقييمه التي باتت التقنية تتولى تنفيذ بعضها باحتراف ومنها:
في الوقت الذي تنمو فيه صناعة البرمجيات لتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي أقوى من أي وقت مضى، تساعد وسائل التواصل الاجتماعي المتعلمين على كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم بشكل أسرع من معلميهم، ذلك لأن المعلمين غالبا ما يكونون أبطأ في فهمهم وقناعاتهم بهذه التقنيات، وغالبا ما يسقطون في فخ الاعتقاد الخاطئ أنهم قد أدوا واجبهم بطريقة ممتازة عندما ينجز المتعلمون أعمالا خالية من الأخطاء، اعتمدوا فيها على تطبيق (ChatGPT) أو نظام مشابه له.
ويمكن استخلاص هواجس المهتمين بالمجال التعليمي حول استخدام (ChatGPT) في أربع نقاط:
من خلال محاكاة الذكاء البشري والتعلم الآلي، يطرح استخدام الذكاء الاصطناعي في الطب آمالا كبيرة في تحسين خدمات العلاج وتحليل الصور الإشعاعية والتمييز بين الأورام، لكنه في الوقت نفسه يطرح تخوفات، أبرزها:
من بين الهواجس حول استخدام تطبيق (ChatGPT)، تأتي كذلك مسألة تأثيره على مستقبل الوظائف، ذلك أن الذكاء الاصطناعي بصفة عامة أصبح وسيلة تُخوِّل للبشر أداء المهام التي كانت تتطلب سابقا مستوى عاليا من التعليم والمهارة.
وكقاعدة عامة، ما إن يُتَاح للمشغلين استبدال الناس بالآلات فإنهم سيفعلون ذلك بلا أدنى تردد لخفض التكاليف، فيصبح بذلك المصير والمستقبل مجهولين بالنسبة لوظائف المؤلفين، منتجي المحتوى الرقمي، المساعدين القانونيين، الصحفيين، المبرمجين، المساعدين التنفيذيين، المسوِّقين الرقميين، ممثلي خدمة العملاء…
وحتى بالنسبة للوظائف المتاحة لخريجي المؤسسات التعليمية. ومع أن بعض النظريات تبشر بتغير الوظائف، إلا أن مجالات استيعاب كل هذه الشرائح من الموظفين الذين سيتضررون من هذا الوضع لا تزال غير واضحة المعالم وقد يستغرق إيجاد الحلول -إن هي وجدت- سنوات لن تكون بالقليلة، فقد خلصت العديد من الدراسات إلى أن نسبة لا بأس بها (قد تصل إلى الثلث) من الوظائف في أمريكا ستكون مُعرَّضة للخطر مستقبلا.
لا شكّ أنّ العصر الحالي هو عصر التكنولوجيا وعصر الذكاء الاصطناعي بامتياز، فقد تطورت التقنية بشكلٍ لا مثيل له في أي عصرٍ آخر، وبدا التوجه نحو المزيد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي أمرا ضروريا لتوفير رخاء البشرية وزيادة رفاهيتها.
وفي المقابل يظل التخوف قائما من سلبياتها وتهديداتها، وهنا تبدو الحاجة الماسة إلى ضرورة البحث عن آلية تنظيمية وقيمية أخلاقية تحقق التوازن بين المضي في تطوير التقنية والحرص على تفادي سلبياتها وتؤطر من خلالها العلاقة بين الإنسان والآلة وبين الأفراد الذين يتعاملون مع الذكاء الاصطناعي في سبيل تحقيق الاستفادة دون المساس بحقوق البشر الأساسية.
وللحديث عن إطار أخلاقي للتعامل مع مجتمع الذكاء الاصطناعي، يجب التسليم بأن الأخلاق في مجتمع الذكاء الاصطناعي هي فن ممارسة الحياة وإيجاد البديل الأفضل في ظل مجموعة البدائل المتاحة التي تحيط بالإنسان، وهذه الأخلاق لا يجب أن تقوم على مبدأ فرض القوانين على الناس، بل يجب أن تقوم على أساس أن الضمير الإنساني هو السلطة الأخلاقية الأولى في المجتمع، أي أن مصدر الإلزام الأخلاقي في مجتمع الذكاء الاصطناعي هو الإنسان نفسه ومن داخله، بحيث تركز هذه الأخلاق على مبدأ الالتزام -لا الإلزام- والرقابة الذاتية.
وهي سلطة معنوية تحكم سلوك الناس، بشرط أن تتلاءم مع الفضائل والقيم الكونية والمسؤولية التي تتجاوز المصالح الخاصة. ومن الجدير بالذكر أن التركيز على الجانب الأخلاقي لا يعني النظر إلى الأخلاق كبديل عن القانون، بل يجب أن يعملا جنبا إلى جنب في تكامل بينهما، ويكون من واجب مؤسسات التنشئة والتربية العمل على بث هذا الإطار الأخلاقي في نفوس الأفراد.
من جهة أخرى، يمكن التخفيف من الآثار السلبية لاستخدامات تقنيات الذكاء الاصطناعي عبر مجموعة من التدابير التنظيمية مثل: وضع معايير دولية موحدة واعتمادها كلغة مشتركة وأداة للتنسيق تساعد الجميع على المساهمة في تطوير تطبيقات للذكاء الاصطناعي تخدم الصالح الإنساني – الاعتماد على بيانات تكون دقيقة وممثلة للجميع – وضع ضوابط قانونية لاحترام الخصوصية والأمن – نهج الشفافية في مجال الذكاء الاصطناعي بغية تنوير صناع القرار في شتى المجالات – تهيئة بيئات لاكتساب المهارات الرقمية والبديلة من خلال التعليم أو التكوين أو التدريب في مكان العمل…
إن الطريقة التي يفكر بها الذكاء الاصطناعي ويتخذ بها قراراته تختلف تماما عن تلك التي يفكر بها البشر، فهؤلاء محكومون في تصرفاتهم وقراراتهم بخبراتهم الذاتية ومبادئهم الإنسانية والمواقف التي مروا منها ومنظومة القيم التي تسيطر على الأفراد والقوانين.
في حين أن ما يحكم الذكاء الاصطناعي هو منطق رياضي بحت يقوم على مبدأ بسيط للغاية وهو "تحقيق المصلحة أو النفعية"، وهو مبدأ ثابت ومرسخ في منظومة القيم البشرية كذلك، لكن مع غياب الإجماع حول تعريفه أو آلية تحقيقه، فالرأسمالية، مثلا، تُعظم من دور المصلحة الفردية والاشتراكية تعظم من دور المصلحة العامة، في حين تعلو المصلحة القومية للدولة في نظريات العلاقات الدولية.
إن هذا الاختلاف حول مفهوم المصلحة ينطبق أيضا على الفكر الاصطناعي الجديد، فالآلة الذكية إذا وجدت في طريقها شجرة تعوقها عن تحقيق هدفها سوف تقطعها، وإن وجدت مريضا لا يُرجى شفاؤه سوف تخطو فوقه، وإن رأت موظفا لا يقوم بعمله بكفاءة مثلما كان يقوم به من قبل سوف ترشح فصله من وظيفته دون نظر للأسباب التي جعلت منه موظفا أقل إنتاجية.
إن مفهوم المصلحة، بالإضافة إلى مفاهيم أخرى مختلف عليها، تعتبر مفاهيم نسبية من مجتمع لآخر، وتتوقف على مصدر القيم التي يتبناها هذا المجتمع أو ذاك، فإذا كانت قيما مادية كما في الحضارة الغربية، أو قيما معنوية كما في الحضارات الآسيوية، أو قيما وسطية تجمع بين المادية والروحية كما في الحضارة الإسلامية، فكيف للآلة أن تفهمها وتُعرفها؟
إن المعارف التي يمتلكها الذكاء الاصطناعي والتي تفوق قدرات البشر "تعصمه" ولو نظريا من الوقوع في الخطأ، كما أن الذكاء الاصطناعي يتميز بـ"الخلود"، فهو لا يموت مثل البشر.
كل ذلك يصب في وعاء القيم المادية النفعية التي تُعظم من "تفرد الآلة" Machine Singularity، فيتم النظر إليها كنموذج صحيح وحصري للتفكير السليم والمنهج الصحيح الذي يجب أن يسير عليه البشر والمصدر الجديد الذي يجب أن تأخذ منه البشرية قيمها وتشريعاتها وسلوكياتها بعدما كان المصدر من قبل هو الدين أو الفلسفة أو التاريخ.