المسيحية أكثر الديانات أتباعًا، حيث قُدّر عدد من يدينون بها عام 2015 بنحو مليارين وربع مليار شخص، أي 31% من إجمالي البشر آنذاك. وقد مرّت المسيحية منذ نشأتها بعدد من الأحداث التاريخية الفاصلة، أدت إلى ظهور فرق جديدة وتمايز أخرى.
ويعد لقاء تلاميذ المسيح والمشايخ في أورشليم، عام 50 ميلاديًا، أول اجتماع مسجل للبت في أمر ديني على مستوى الطائفة المسيحية، التي اعتبرت في البدء أحد التيارات اليهودية. طرح حينها سؤال يخص درجة الالتزام الواجبة على معتنقي المسيحية الجدد، من الـ«أمّيين» (Gentiles، كلمة يشار بها إلى غير اليهود)، بالشريعة الموسوية.
وقد أعفاهم المجلس من أكثر هذه التشريعات (مثل الختان، السبب الرئيسي للاجتماع)، وأبقى على بعضها (مثل تحريم الزنا وشرب الدم)، وفي سفر أعمال الرسل قصة هذه الواقعة.
بمرور القرن الثاني الميلادي، ازدادت معالم العقيدة المسيحية وضوحًا وتميزًا، وازداد التماسك والاتصال بين مجتمعاتها المتفرقة النامية التي عانت اضطهادًا من الإمبراطورية الرومانية، لم يلِن إلا مع مرسوم ميلانو عام 313م، ودعم الإمبراطور الطموح قسطنطين الأول المتزايد لها، وهو ما سيمنح كنيسة روما أهمية تاريخية خاصة.
ثم جاء عام 325م، وفيه دعا قسطنطين الأول إلى عقد أول «مجمع مسكوني»، بمدينة نيقية (إزنيق التركية حاليًا)، للبت في أمر بدعة أريوس، الكاهن المصري السكندري. قال أريوس إن المسيح ليس بإله ولا ببشر، بل كائن شبه إلهي، خلقه الإله قبل خلق السماوات والأرض، فقرر المجمع حرمان أريوس، والانتصار للرأي المقابل الذي تزعمه أثناسيوس الكبير السكندري.
وتأبيدًا لذلك، صاغ المجمع قانون الإيمان، في نسخته النيقية التي ستخضع لتعديلات أخرى مستقبلًا. لكن في هذه الصيغة، أقرّ قانون نيقية بمساواة المسيح للآب في الجوهر.
أما الانشقاق الأبرز، المسمّى بالانشقاق الكبير، فقد وقع عام 1054م بين الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية (بطريركية الإسكندرية للروم الأرثوذكس، والكنيسة الروسية الأرثوذكسية، وغيرهما) بعد تاريخ من الخلاف السياسي واللاهوتي المتزايد؛ منه خلاف حول أولوية وسلطة بابا روما على بطارقة الكنائس الشرقية. وخلاف حول انبثاق الروح القدس (ثالث أقانيم الثالوث المسيحي)، الذي نصّ قانون نيقية على انبثاقه من الآب، إلا أن الكنيسة الكاثوليكية أضافت إلى القانون ما يفيد انبثاقه من «الابن» أيضًا، وهو ما رفضته الكنائس الشرقية تمامًا.
أخيرًا، شهدت أوروبا في القرن الـ16 اختلافًا كبير الأثر، أدى -وما يزال- إلى ظهور عدد كبير من الكنائس المسيحية، فيما سيعرف في ألمانيا باسم حركة الإصلاح البروتستانتية (Protest، تعني معارضة، نسبة إلى معارضي تراجع كارلوس الخامس، الإمبراطور الألماني الكاثوليكي، عن أحد قراراته الإصلاحية)، بينما سيطلق على الإصلاحيين خارج ألمانيا لقب «الإنجيليين».
لكن بمرور الوقت أصبح اللقب الأخير خاصًا بفرق بروتستانتية معينة. وقد دفع هذا الانقسام الكنيسة الكاثوليكية إلى إجراء حركة إصلاح مضادة، بدأت مع أولى جلسات مجمع ترنت عام 1545م.
الكاثوليكية
«كاثوليك» -لغة- كلمة مشتقة من أصل يوناني، تعني «عام» أو «جامع». أُطلِقت تاريخيًا على أتباع كنيسة روما، في الشرق والغرب، لكن بعد الانقسام الكبير، احتفظت الكنيسة الغربية باللقب، بينما فضلت الكنيسة الشرقية لقب الـ«أرثوذكس» بمعنى «الإيمان القويم».
ينسب الكاثوليك كنيستهم إلى القديس بطرس الرسول، تلميذ المسيح الذي صلبه نيرون، الإمبراطور الروماني، في العقد السابع ميلاديًا. لكن ليس الانتساب إلى بطرس الرسول شرفيًا فحسب، بل تصبح الكنيسة الكاثوليكية بحكم ذلك كنيسة رسولية، يمتلك أساقفتها أسرارًا متوارثة يرجع أصلها إلى المسيح الذي منحها تلاميذَه بحسب بعض نصوص الإنجيل.
حُدِّدت هذه الأسرار بشكل نهائي في مطلع القرن الـ12، ثم أُعلنت بلائحة رسمية في مجمع ليون المسكوني سنة 1274م. وعدد الأسرار الكنسية سبعة، هي:
1. سر المعمودية (يصير به الشخص تابعًا للمسيح وفردًا بكنيسته).
2. سر التثبيت (باستخدام زيت الميرون المقدس، يختم الإيمان وتكتمل موهبة الروح القدس).
3. سر التناول (الإفخارستيا، طقس مرتبط بالعشاء الأخير، يكتمل به الاتحاد بالمسيح، عبر تناول الخبز والخمر اللذيْن يتحولان بالسر إلى جسده ودمه).
4. سر الإعتراف (يسترد به التائب النعمة المفقودة بسبب الذنب، ويغفر له).
5. سر المسحة الأخيرة (يمسح فيه المريض المقبل على الموت).
6. سر الكهنوت (يرسم ويعين به الشمامسة والكهنة والأساقفة).
7. سر الزواج (يجمع بين الرجل والمرأة برباط مقدّس).
اليوم، صار مقر الكنيسة الرومانية الكاثوليكية هو دولة الفاتيكان، أصغر الدول حجمًا، تقع داخل إيطاليا، ويحكمها البابا فرنسيس، الذي يؤمن الكاثوليك بعصمته. وفي عام 2015،أعلن الفاتيكان أن عدد الكاثوليك رسميًا قد تجاوز 1.28 مليار شخص، وهو ما يمثل 17.7% من تعداد البشر. ولا تسمح الكنيسة بزواج الكهنة مطلقًا، ولا بالطلاق، وإن كانت تسمح بالتفريق.
كاثوليك مصر: الكنيسة القبطية الكاثوليكية
بداية من منتصف القرن الـ15، تحت توجيهات البابا إيجين الرابع، أجرت الكنيسة الكاثوليكية سلسلة من المحاولات الدءوبة للتودد إلى الكنائس الشرقية بهدف رأب الصدع القديم وإقناع الكنيسة القبطية بالعودة إلى البلاط الروماني، لكنها باءت جميعًا بالفشل.
ثم تغيرت السياسة الكاثوليكية في القرن الـ18، ففيه ازداد الاهتمام بالجهود التبشيرية الكاثوليكية بمصر خاصة في الصعيد، على يد الرهبان الفرنسيسكان المتحمسين. وفي عام 1731م، عيّن بندكت الـ14، بابا روما، أسقفًا قبطيًا تحوّل إلى الكاثوليكية يُدعى أثناسيوس، نائبًا رسوليًا في مصر، لكنه لم يستطع الإقامة فيها.
وتذكر بعض المصادر ارتداده إلى الأرثوذكسية. ثم مضى نحو عقد من الزمان، بدأت بعده الكنيسة الكاثوليكية في جني الثمار، فسارع الأرثوذكس في الضغط على الحكومة لإصدار قرار بحظر اعتناق الكاثوليكية.
لكن الحال اختلف مع دعم إيطاليا للبعثات التبشيرية الكاثوليكية، ومن بعدها النمسا، حتى إن الأقباط الكاثوليك قد استمتعوا بامتيازات الجالية النمساوية إلى حين إنشاء المحاكم المختلطة عام 1876م. ولن يكف بابا روما عن محاولات إقناع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والضغط عليها، لاهوتيًا وسياسيًا.
لكن تحول أسرة المعلّم غالي – اليد اليمنى لمحمد علي باشا – إلى المسيحية عام 1822م، يُعد البداية الحقيقية للطائفة الكاثوليكية وكنيستها في مصر. وفي عام 1824، أمر ليون الثاني عشر، بابا روما، بإنشاء بطريركية للأقباط الكاثوليك، إلا أن الأمر لن يُفَعَّل قبل سنوات عدة. كما سيشهد القرن التالي سجالات لاهوتية وجهودًا تبشيرية متبادلة بين الطائفتين.
كما سيظل كرسي البطريركية خاليًا 39 سنة ما بين 1908 و1947، بعد عزل البطريرك «كيرلس الثاني»، أول بطريرك بعد إعادة تأسيس الكنيسة القبطية بأمر من «ليون الـ13»، بابا الفاتيكان، المتوفى عام 1903.
اليوم، يتبع البطريركية القبطية الكاثوليكية أكثر من 170 ألف شخص، موزعين على سبع أبرشيات في أنحاء الجمهورية. ويتولى بطريركية الكنيسة القبطية الكاثوليكية الأنبا إبراهيم الأول إسحاق، وذلك منذ عام 2013 إلى الآن.
البروتستانتية
المذهب البروتستانتي ثاني أكثر المذاهب المسيحية أتباعًا، حيث يُقدّر عدد من يدينون به حول العالم بنحو 800 مليون، كما أنه الأكثر انقسامًا بين عدة كنائس ومذاهب. بدأ المذهب مع حركة الإصلاح التي تزعمها القس الألماني «مارتن لوثر»، وهي حركة لم تكن تقصد إلى رفض الكاثوليكية برمّتها، وإنما سعت إلى الإصلاح من داخل الهيكل الكنسي.
لكنها قوبلت برفض تام. وقد أشعل شرارة هذه الحركة تورط الكنيسة في صراعات سياسية وسلطوية، وتنامي الفساد المالي والإداري داخلها، ولعلّ صكوك الغفران من أشهر هذه القضايا. كانت ألمانيا حاضنة هذه الحركة الإصلاحية، إذ تحمس لها الأمراء الراغبون في التخلص من منافسة الكنيسة وروما.
ويرجع الفضل الأكبر في انتصار هذه الحركة إلى صمود مارتن لوثر الذي خاض معركة طويلة، حتى إن «ليو العاشر»، بابا الكنيسة الكاثوليكية، أصدر قرارًا بحرمانه كنسيًا عام 1521، بعد تجاوزه الكثير من الخطوط الحمراء، بسبب كتاباته اللاهوتية الثورية، وترجمته للإنجيل –الذي يدرسه كهنة الكنيسة باللاتينية، ويحظر ترجمته إلى أي لغة أخرى- إلى الألمانية، وانتشارها بين الأوروبيين بفضل الطباعة.
إلى جانب هرطقاته (أي: بدعه) بالنسبة للكاثوليكية، مثل زعمه أن مجرد الإيمان كافٍ للخلاص الديني، دون حاجة إلى سعي أو اجتهاد أو صكوك غفران. تُولي الفرق البروتستانتية الكتاب المقدس اهتمامًا وتقديرًا خاصًا، فلا تعترف لأي نص بسلطة على المسيحي سواه، وترفض الصلاة إلى القديسين.
وترى أن خبز وخمر طقس التناول مجرد رمز إلى جسد ودم المسيح، لا حقيقة. علاوة على ذلك، تنكر «الخلافة الرسولية»، فلا الكنائس البروتستانتية رسولية، ولا هي تعترف بمنصب البابا. كما تسمح بزواج الكهنة، فقد جعل مارتن لوثر موقفه من ذلك واضحًا حين تزوج – وهو الراهب السابق – بكاترينا فون بورا، الراهبة السابقة.
أما عن أسرار الكنيسة، فتعتمد الكنائس البروتستانتية الكلاسيكية (مثل الكنيسة اللوثرية، والأنجليكانية، والكالفينية) سرَّين فقط من الأسرار الكاثوليكية السبعة، هما التعميد والتناول. لكن هذا لا يعني إنكار البروتستانت لسائر الطقوس أو أهدافها، مثل الزواج! بل تزعم أنها لا تجد في الكتاب المقدس ما يجعلها أسرارًا كنسية متوارثة.
كذلك تختلف النسخة البروتستانتية من الكتاب المقدس لرفضهم بعض الأسفار المعتمدة لدى الكاثوليك. لكن يجب التنبيه إلى التنوع الكبير في الكنائس البروتستانتية، فبعضها لا يؤمن بالسرّين السابقين (مثل جيش الخلاص)، وفيها من لا تقبل تعميد الأطفال (الكنيسة المعمدانية).
بروتستانت مصر: الكنيسة الإنجيلية المشيخية
شهد القرن الـ17 أولى محاولات التبشير الإنجيلي، بجهود تطوعية. وفي القرن التالي، بدأت الكنيسة المورافية إرسال المبشرين إلى مصر مثل فردريك فيلهلم هوكر، طالب الطب، الذي قدم مصر عام 1750،حيث خدم بها ودرس العربية، وراسل مرقس السابع، بابا الأرثوذكس آنذاك، وترجم عددًا من الترانيم والعظات إلى العربية.
ثم جاء القرن الـ19، وفي منتصفه قرّر السنودس (مجلس كنسي أعلى) العام للكنيسة المشيخية بشمال أمريكا، نقل بعض المبشرين الأمريكيين من سوريا إلى مصر. وخلال عقد واحد، وصل عددهم إلى سبعة من المبشرين المستقرين مع أسرهم شكّلوا أول مجمع مشيخي في مصر.
وسرعان ما لحق بهم آخرون، امتزجوا بالمجتمع المصري، منهم أندرو واتسون، والد تشارلز واتسون مؤسّس الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وبدأوا النشاط البروتستانتي العلني في محافظات مصر وقراها. لقد انتهج المشيخيون طرقًا ذكية لنشر مذهبهم وكسب ود المصريين، فأسسوا مدارس منضبطة، ونظموا رحلات نيلية، وقدموا الخدمات الطبية، وأنشأوا مختلف المؤسسات المشيخية.
وفي عام 1957، استقل المجمع المشيخي عن المجلس الأمريكي الأم بعد سنوات من الاستقلال المادي. واليوم،تضم مصر ثمانية مجامع مشيخية، يرأسها سنودس النيل الإنجيلي، تتبعها 312 كنيسة تخدم نحو ربع مليون قبطي مشيخي هم أغلب البروتستانت المصريين.
الأرثوذكسية (المشرقية)
مثلما ذكرنا، استقلّت الأرثوذكسية المشرقية عن كنيسة روما، في منتصف القرن الخامس الميلادي، حين رفضت كنائس مصر وأرمينيا وسوريا والهند وإثيوبيا إقرار مجمع خلقيدونية بأن للمسيح طبيعتين تامتين، واحدة إلهية وأخرى بشرية، لأنه يفتح الباب أمام هرطقات خطيرة. وشدّدت الكنائس على أن للمسيح طبيعة واحدة، لكنها لا تعني طبيعة لاهوتية فقط أو طبيعة بشرية فقط، بل طبيعة واحدة نتجت عن اتحاد هاتين الطبيعتين.
في الفترة المبكرة، واجهت أكثر الكنائس المشرقية اضطهادًا على يد الكاثوليك، كما استهدفتهم الحملات التبشيرية في القرون الأخيرة، إلى جانب تأثير المد الإسلامي، وقد خلق هذا وغيره شيئًا من العزلة بينها، حتى جاء عام 1965، واجتمع الآباء في أديس أبابا، العاصمة الإثيوبية، حيث أعادوا التأكيد على واحدية معتقدهم وحتمية التعاون.
مارست الأرثوذكسية المشرقية التبشير بنشاط في عدة مراحل من تاريخها الطويل، مثل تأثير الكنيسة القبطية الكبير في منطقة أعالي النيل والنوبة. كما تميزت بالانغماس الكبير لأفراد الطائفة في الأنشطة الكنسية. وشهدت العقود الأخيرة جهودًا دبلوماسية كبيرة وممتدة لهذه الكنائس، منها محاولات حثيثة لرأب الصدع بينها وبين الكنائس الخلقيدونية.
أدى ذلك إلى أن مكّنتها بالفعل من الانضمام إلى مجلس الكنائس العالمي، بعد تخلصها من وصمة الهرطقة الكاثوليكية.وتُوّجت هذه الجهود بزيارة البابا فرنسيس إلى مصر عام 2017، وتوقيعه مع البابا تواضروس الثاني اتفاقًا يلغي الحاجة إلى إعادة المعمودية للمسيحي الراغب في الانتقال بين الكنيستين.
لا تؤمن الكنائس المشرقية بسلطة روحية منفردة – مثل الكاثوليك – بل يرأس كلا منها بابا مختلف. وتَقبَل المتزوجين في السلك الكهنوتي لكنها لا تسمح بالزواج بعد الترسيم، وتسمح بالطلاق لعلة الزنا فقط، لكنها لا تبيح الزواج بالمطلَّقين ولا الزواج من خارج الطائفة. اليوم، يقترب عدد الطائفة المشرقية من 60 مليون مسيحي.
أرثوذكس مصر: الكنيسة القبطية الأرثوذكسية
يؤمن الكثير من الأقباط (قبطي مشتقة من Aigyptos اليونانية، استخدمت للإشارة إلى مصر والنيل) بأن أجدادهم قد آمنوا بالمسيح، عندما هبط مصر – مع العائلة المقدسة – رضيعًا، هربًا من طغيان هيرودس الأول ملك اليهود، ويزخر الفلكلور المصري بحكايات عن معجزات المسيح الطفل في وادي النيل. كما يرجعون أصل كنيستهم الرسولية إلى القديس مرقس، صاحب الإنجيل، الذي زار مصر وبشر بالمسيح.
قاسى الأقباط الأرثوذكس في القرون الأولى اضطهادًا بشعًا وصريحًا، حتى بدأت الكنيسة تقويمًا بعام الشهداء، أولى سنوات حكم ديوكلتيانوس، الإمبراطور الروماني، الذي حكم مصر بين عامي 284 و305. إلى جانب الشهداء، قدمت الكنسية الأرثوذكسية القبطية كثيرًا من الأدبيات والشروح اللاهوتية المهمة على يد رجال نبهاء، من أبرزهم أوريجانوس الفيلسوف المولود عام 185م، تلميذ إكليمندس الإسكندري.
ثم جاء القرن الرابع، قرن البدعة الأريوسية ومجمع نيقية، فيه اكتسبت الكنيسة القبطية مزيدًا من احترام العالم المسيحي بفضل الدور الرائد الذي لعبه القديس أثناسيوس في السجال اللاهوتي، قبل أن يناله بعض الغضب الإمبراطوري. بعدها، قدمت الكنيسة رهبنة الأنبا باخوم الديرية للعالم المسيحي، كما وقعت حوادث اضطهاد للوثنيين أشهرها حادثة مقتل هيباتيا الفيلسوفة.
لم تخل هذه الفترة أيضًا من معارك مع من اعتبرتهم الكنيسة القبطية مهرطقين خطرين، مثل الحرب بين كيرلس بطريرك الإسكندرية ونسطور بطريرك القسطنطينية بعد رفض الأخير وصف مريم العذراء بـ«والدة الإله». إلا أن الكنيسة سرعان ما اضطرت إلى العزلة والانشقاق عن الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الشرقية عقب مجمع خلقيدونية، مما أدى إلى كثير من الانشقاقات الداخلية، واضطهاد روماني بشع، تلاه الفتح الإسلامي، مما حرمها حتى زعامة الأرثوذكسية المشرقية فترة من الزمن.
في العصر الإسلامي، عومل الأقباط الأرثوذكس وفق مفهوم «أهل الذمة»، دفع بمقتضاه الذكور الأصحاء مبلغًا من المال مقابل حمايتهم والإعفاء من الخدمة العسكرية. وتباينت سياسات الدولة تجاههم مع تباين أمزجة الولاة، لكن نادرًا ما اضطر المسيحي إلى ترك دينه حفظًا لحياته، وإن كانت هناك ضغوط قائمة تختلف درجاتها، علاوة على ما كان للتحول إلى الإسلام من مزايا اجتماعية.
في هذا العصر، تساوت حالة الطوائف المسيحية المختلفة من أقباط ونساطرة ويعاقبة وغيرهم، وهو ما استفاد منه الأقباط كثيرًا، إذ ضموا إليهم كثيرًا من الكنائس والمؤسسات التي خلّفها البيزنطيون. عُيّن المسيحيون في الوظائف الكتابية، وكلفوا بجمع الضرائب والقضاء المحلي دون توليتهم مناصب تخوِّلهم سلطة كبيرة على المسلمين، وهو حال الوزراء منهم، لكنهم – بشكل عام – حصلوا على امتيازات لم تكن لهم تحت الحكم البيزنطي.
وفي أغلب سنوات الدولة الفاطمية، شهد المسيحيون تحسنًا ملموسًا في الوضع الاجتماعي، لكنه لم يستمر في العصر الأيوبي إذ كان للحملات الصليبية أثر سلبي كبير على نظرة الدولة والمسلمين إلى الطائفة المسيحية. جدير بالذكر أن الحكم الإسلامي قد أدى إلى انزواء اللغة القبطية تدريجيًا لصالح العربية – لغة الإدارة والحكم – التي توغّلت حتى دخلت الكنيسة ومراسمها الدينية.
اليوم، يبلغ عدد أتباع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر وخارجها نحو 12 مليون شخص تحت الزعامة الروحية لتواضروس الثاني، بابا الإسكندرية رقم 118. وللكنيسة القبطية حضور مميز حول العالم، إذ بلغ عدد كنائسها في الولايات المتحدة – مثلًا – أكثر من 100 كنيسة.