من الأمور التي يجِدُها المتأملُ غريبةً أن يقول البعض بإمكانية الحياة البشرية الطبيعية على بعض الكواكب الأخرى؛ كالقمر أو المريخ، يحدث ذلك بينما العالم كله في أشد حالات الانزعاج لِما يسمى بثقب الأوزون، وهو الثقب الذي حدث بالغِلاف الجوي؛ نتيجة زيادة الحرارة والأدخنة، والغازات المنبعثة من الأرض وقاطنيها؛ بسبب اتجاههم للتصنيع، وكذا استخدام الطاقة البترولية على نطاق واسع لتحقيق الرفاهية المعيشية المزعومة على كوكب الأرض.
وقد ارتبط بهذا الاستخدام المفرط للطاقة في العصر الحاضر تلوُّثٌ بيئي شامل، بالإضافة إلى انبعاثات حرارية وغازية غير مسبوقة، أدت إلى تلوث الهواء وتحمله بقدر كبير من الكربون السام، الذي يتجه إلى السماء وطبقاتها؛ ما تسبب في خرق الغلاف الجوي أو الميزان البيئي الطبيعي، الذي وضعه الله منذ خلق الأرض لحمايتها، وأدى ذلك إلى ظاهرة التغير المناخي، وما استتبعها من مشكلات تؤثر في استمرارية الحياة على الأرض على المدى الطويل.
وهذا الغاز يُنطق بالإنجليزية كرُب مع تنوين الضم على الباء، وهو بالفعل كرب على أهل الأرض، أعاذنا الله من شره؛ حيث إنه ومع شدة ضغطه على الغلاف الجوي الذي يشبه المشيمة التي يحتمي بها الجنين في بطن أمه، تسبَّب في الإخلال بالتوازن البيئي الذي هو الميزان الذي وضعه الله عز وجل، وذكره في الآية الكريمة من
سورة الرحمن:
﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: 7]، فتسبب في ذوبان جبال من الجليد صار لها آلاف السنين في مكانها؛ مما يُنذر بمخاطر جسيمة محدِقة بالكوكب الأرضي مع تقدم الأيام.
وما الفيضانات والزلازل التي حدثت وتحدث بإندونيسيا واليابان وغيرهما من أقطار العالم، إلا بعض نتائج الخلل الحراري الناتج من ثقب الأوزون، ومن عجب أنهم وفي ظل انزعاجهم من هذا الثقب يدعون بأن الحياة البشرية ممكنة على ظهر كواكب أخرى غير الأرض، وهذه المقولات محضُ خرافات.
لأن الله عز وجل قد وضع ميزانًا دقيقًا للحياة على الأرض، يجب على الجميع الحفاظ عليه، والعمل وفق معاييره، والتقيد بما يتطلبه الحفاظ عليه، مع التفكر والتدبر الدائمين في هذا الميزان، وصولًا إلى الإيمان بمن أوجده وخلقه، أما في حالة عدم احترام البشر للثوابت والمسلَّمات التي يسير وفقها النظام الكوني الرباني، ويشير إليها
القرآن الكريم (بالميزان)، فإن الأخطار الهائلة محدقة بالجميع، فقد دعم الله عز وجل الحياة على الأرض بميزان دقيق، لا يُعتقَد أنه موجود بالكواكب الأخرى غير الأرض.
والميزان المشار إليه في الآية الكريمة في قوله عز وجل:
﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: 7] يحتمل معانيَ أو مدلولات أخرى مختلفة، وهذا من إعجاز
القرآن الكريم، فالميزان هنا من الوارد أن يكون المقصود به الميزان الداخلي لجسم الإنسان من حيث علاقة الإنسان بهذا الجسم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
((إن لبدنك عليك حقًّا))، في إشارة منه إلى ضرورة أن تتعامل مع جسدك أو بدنك بميزان دقيق، فتعطيه حقَّه كاملًا من الغذاء والعلاج، والتريض والراحة، فضلًا عن العبادة المشروعة، وما إلى ذلك من أمور حتى تستطيع أن تحافظ على صحتك التي وهبك الله إياها.
ومن ناحية أخرى، فإن الميزان هو هذا الميزان نفسه الذي توزن به السلع؛ حيث أشار المولى عز وجل في موضع آخر من
القرآن الكريم إلى ذات الموضوع؛ في قوله تعالى:
﴿بسم الله الرحمن الرحيم وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 1 - 6].
والآيات الكريمة من
سورة المطففين توضِّح لنا أهمية أن نزِنَ بالعدل، وأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك؛ فلا تستأثر بالزيادة إن كنت مشتريًا، وتبتغي الإنقاص من الوزن إن كنت بائعًا، فهذا يؤدي إلى الويل في الآخرة، والعياذ بالله.
والميزان من ناحية أخرى هو أمور الحكم والقضاء، والحكم يتم وفق مستويات متنوعة، وكذلك القضاء، فالأب أو الرجل حاكم في بيته وقاضٍ، ومن الواجب عليه أن يتوخى العدل، فيكون حاكمًا عادلًا، وقاضيًا مُنصفًا، حتى ينجوَ من عذاب الله عز وجل وعقابه، ويفوزَ بالجنة، وكذا بالنسبة للأمير والوزير، والملك والرئيس، والمدير والمحافظ، وغيرهم من المستويات الإدارية أو الاجتماعية المختلفة، كلهم مسؤولون أمام الله، كانوا مستخلفين فيه من السلطة كبرت أو صغرت؛ يقول صلى الله عليه وسلم:
((ألَا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالإمام الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبدُالرجل راعٍ على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألَا فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
ويتطابق ذلك مع مفهوم الآية الكريمة:
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47]، فالموازين هنا شاملة وترتبط بوضوح بقضية العدل بين الرعية، أو حتى على المستوى الأُسري، أو على أي مستوى من المستويات.
ويؤكد المولى عز وجل نفس المعنى في قوله تعالى:
﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ [الشعراء: 182]، إشارة منه عز وجل إلى ضرورة توخي العدل والاستقامة في الوزن، والوزن يرتبط بالموازين، وهي عامة وشاملة كما نعلم.
وهكذا يلفت المولى عز وجل أنظارنا وفي لفظ مجمَل مُعجِز إلى أمور مختلفة، تختص بالعدل على كل المستويات والأشكال، والمقصود بذلك ذلك الجزء من الآية الكريمة من
سورة الرحمن التي نحن بصددها:
﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: 7]، فهو ميزان كونيٌّ، وميزان بيئي، وميزان للعدل والقسط، وكذلك ميزان ذاتي لك أنت مع جسمك، أو ميزان بينك وبين الآخرين في علاقتك بهم وسلوكك معهم، أو ميزان حقيقي لوزن السلع من خلال البيع والشراء، كل ذلك مرتبط بالحياة البشرية على الأرض، وليس ما دونها من الكواكب، والله عز وجل أعلى وأعلم.