نشأت وسائل
التواصل الاجتماعي في البداية للتفاعل بين الأصدقاء، وأفراد العائلة وأصحاب الاهتمامات المشتركة في جميع أنحاء الأرض، فما لبِثت أن تحوَّلت الى منصة تجارية وتسويقية من الطراز الأول؛ حيث استخدمتها الشركات لاحقًا كوسيلة لجذب العملاء، والتجار الى مكان لترويج سلعتهم وبضاعتهم، والأفراد من أجل البحث عن الوظائف وتبادل المعلومات، والعثور على أشخاص يتشاركون معهم اهتماماتهم، وساحة لنشر المحتوي بمختلف توجهاته، وغير ذلك من الأنشطة والمجالات المعتمدة بشكل كلي على وجود مجتمع مترابط بشكل افتراضي يسهل عليه
التواصل في أي وقت ومن أي مكان، ولكن هل هذا الطرح يعكس كل الواقع أم أن لشبكات
التواصل الاجتماعي ملامح وتبعات أخرى؟!
لا شك أن حضور وسائل
التواصل الاجتماعي في يومنا بهذا الشكل المتلازم البيِّن، مع ما له من فوائد، فإن له تبعات وآثارًا في حياتنا ونفوسنا، فقطعًا الحياة قبل وسائل
التواصل الاجتماعي تختلف اختلافًا لا يستطيع أحد إنكاره عن حياتنا بعدها، وذلك على المستوى المجتمعي والفردي، وخاصة النفسي منها، ومن هذه الآثار ما سنركز عليه فيما يلي، مع ما له من إيجابيات وفوائد كما قلنا:
الآثار الاجتماعية:
1- ضعف التواصل والانسحاب الاجتماعي على أرض الواقع، والانخراط في هذا العالم الوهمي.
2- ارتفاع معدل الخلافات الأسرية والزوجية، لما تسببه هذه الوسائل من الانشغال التام بها الذي يصل في كثير من الأحيان إلى الإدمان، وغيرها من الخلافات التي تحدث بسبب المقارنات، والغيرة التي تسببها الصورة المتصدرة في هذه الوسائل من الكمال في كل شيء، فتحول الوهم إلى حقيقة، نقارن أنفسنا ومَن حولنا بها.
3- تزايد مظاهر التفاخر والاستعراض الاجتماعي، فأغلب هذه الوسائل إنما هي في حقيقتها وسائل أنوية: المغالاة في الاعتزاز بالنفس بامتياز.
الآثار النفسية:
1- الشعور بالعزلة، تحت شعار (بمفردنا معًا)، مع توهم عكس ذلك.
2- تزايد النرجسية، فشبكات التواصل قائمة على عرض الذات والفردية، فهي منصة ممتازة للاستعراض.
3- الإدمان، وهو الذي يمنع صاحبه من عيش حياة طبيعية خارج شاشة هاتفه، فيصبح الإنترنت وعالمه أهم عند المدمن من عائلته وأصدقائه وعمله؛ مما يؤثر سلبًا على نمط حياته، ويصنع نوعًا من التوتر والقلق.
4- فقدان الإحساس الوجودي بالمشاعر ومعايشتها، فإن كثرة المدخلات التي تدخل إلينا من هذه الوسائل في الدقيقة الواحدة من أخبار تستدعي الفرح، ثم أخرى تستدعي الحزن، وأخرى توجب الغضب وغيرها، جعلتنا جامدين لا نستطيع التفاعل مع هذا الكم من المشاعر المتتالية، وإعطاءها حقَّها بشكل كافٍ، مما أفقدها جزءًا كبيرًا من معناها، وأفقدنا جزءًا كبيرًا من نفوسنا.
وهنا يُمكننا أن نطرح سؤالًا: لماذا يعد الإقلاع عن وسائل التواصل الاجتماعي خاصة الفيس بوك - شيئًا صعبًا؟!
يمكن تلخيص ذلك في نقاط كالآتي:
♦ الجاذبية والإبهار، وتنوع المتع السمعية والبصرية التي تعتمد عليها بشكل أساسي تلك الوسائل.
♦ انخفاض التكلفة والشعور بالسيطرة والتحكم، فترى الشخص يتذمر من الالتزامات والانشغالات، ثم إذا خلا بنفسه أطعم وقته مسبغة هذه الوسائل هروبًا من تكلفات الواقع.
♦ الخوف من التفويت، في حالة من انتظار وترقب المحتوى الذي توهم نفسك بالندم عليه إن فاتك، وقوعًا بذلك في فخ تلقي الكثير من المدخلات التي تبدو نافعة في ظاهرها، والواقع أنك تتلقى القشور، حيث إننا نجد الراسخون في العلم إنما يصلون إلى هذه المنزلة العالية؛ لكونهم لا يكفون صرف أنفسهم عن الاشتغال بهذه القشور والأخبار والأحداث، بل يجدون في أنفسهم استثقالًا لها، لاشتغال قلوبهم بما هو أجلُّ وأعلى وأنفع.
♦ تلبية بعض الاحتياجات النفسية، من حب الظهور والشعور بالسيطرة والتحكم الدائم، وإشباع الأنا الداخلية وغيرها من المشاعر التي يشبع بها الإنسان احتياجاته مؤقتًا، وتحصل المواجهة بينه وبين نفسه عندما ينقطع عن هذا العالم الوهمي، فيعود فارًّا إليه؛ لأنه لا يقوى على هذه المواجهة.
الآثار الأخلاقية والقانونية:
1- تلاشي الخصوصية، بل أصبح المنغمسون في هذه الوسائل يتنافسون في ذلك، فلا يصيبهم شي من الحزن أو الفرح إلا كان همهم الأكبر نشر ذلك لمتابعيهم، فأصبحوا تابعين لهم والعكس بالعكس.
2- تراخي الرقابة، فانتشرت بذلك الإباحيات والسخرية والاستهزاء والسفسطة، وغير ذلك من الابتلاءات التي ابتُلينا بها، ووقع في شباكها أبناؤنا وبناتنا تحت مسمى الحرية في التعبير والنشر.
الآثار على القراءة والعلم والمعرفة:
1- تشتيت الانتباه والافتقار للتركيز؛ حيث إنه إذا رسخ في العقل سهولة الوصول للمعلومة لاحقًا، فمن المرجح أن نتذكر طريقة الوصول إلى المعلومة أكثر من تذكُّرنا للمعلومة ذاتها.
2- الكثافة المفرطة في تدفق المعلومات، لتصل إلى درجة لا يستفيد منها أو يستوعبها العقل.
3- الاختزال؛ حيث إن وسائل التواصل هذه تحدد لك قدرًا معينًا من الكلمات لا يسمح تجاوزه في الغالب، فيلجأ ناشر المحتوى إلى اختزال ما لا يمكن اختزاله في هذه السطور القليلة، وبدوره أصبح المتلقي لا يقرأ ولا يأخذ المعلومة إلا إذا كانت مختزلة في سطور قليلة، فيمر على المقال أو المنشور المطول مرور العابرين، بل لا يتوقف عنده من الأساس.
4- السطحية؛ بفقْد الإنسان القدرة على التعمق والتفكر في دقائق الأمور، فبالنسبة له هذا إرهاق للعقل لا داعي له.
5- اللحظية وسرعة الاستهلاك، وهذا يؤثر بشكل سلبي واضح في تعاملاته على أرض الواقع.
6- غياب البرهنة، فتجد أغلب البراهين خطابية أو شعرية، وهي أقرب ما تكون للسفسطة.
7- غموض المصدر وعدم وضوح معايير المصداقية، فأغلب المعايير مبنية على الشهرة والجاذبية الشخصية، وكثافة الحضور الوهمي (سطوة الرقم والحضور)، والتأثر بالحشد والتعليقات.
8- الافتقار للمنهجية والإطار الناظم.
9- شيوع المغالطات المنطقية والألعاب اللفظية، مع قلة وعي المتلقي وشدة جهله.
10- الإيهام بالمعرفة والاطلاع، معتقدًا أنه هو الحاضر وغيره هو الغائب، وأنه في ساحة معركة التأثير، وغيره رَضِي أن يكون مع الغافلين، ولكن كل هذا ما هو إلا وهم يعيش فيه، فالتأثير إنما يكون بالانتقال إلى العمل الجاد والإنتاج في صناعة الواقع بالعلم والعمل، لا بالمشاهدة والتنظير.
وهنا بعض الأطروحات لأفكار عملية للقراءة واستثمار شبكات التواصل الاجتماعي في العلم والمعرفة:
♦ تقليص أعداد المتابعة للصداقات والشخصيات العامة والصفحات المختلفة.
♦ الاستغناء قدر الإمكان عن التطبيقات المتداولة بكثرة، لخفض التشويش واستثمار الأوقات.
♦ إبعاد الهاتف عن مكان القراءة.
♦ إلغاء التنبيهات، فهي من أكثر عوامل تشتيت الانتباه.
إن المسألة في النهاية ما هي إلا مسألة توازن، ويجب ألا نستسلم لحالة الانجراف في دوامة هذه الوسائل، بسبب تتابع كثير من الناس عليها، فالنفس البشرية تستريح بالمشابهة، فنحتاج إلى مجاهدة أنفسنا كل يوم؛ حتى لا يسقط وقع الشيء عن قلوبنا بسبب تكراره وانتشاره، ونحتاج إلى أن نقبل على الله بالعمل وبالإنتاج الإصلاحي.