برزت شخصية القائد الإسلامي العظيم عقبة بن نافع كشخصية عسكرية كبيرة في التاريخ الإسلامي، وفي سجل الانتصارات العظيمة لأمة التوحيد. فهو من أوائل الفاتحين الذين شقوا طريق الإسلام عبر المغارب الأدنى والأوسط والأقصى منها حتى وصل سواحل الأطلسي أو ما يعرف حينها ببحر الظلمات. ولذلك، فإن لعقبة دور حاسم في التحول التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي طرأ على الشمال الإفريقي في عصر التنوير الرباني ورسالة الإسلام. وله الفضل العظيم بعد فضل الله تبارك وتعالى في إيصال الدعوة الإسلامية إلى تلك الأصقاع وفي هداية أهل المغرب وسكانه من البربر (الأمازيغ) وغيرهم. ولذلك فقد كان من الطبيعي أن يتعرض كما تعرض غيره لحملات التشويه التي تريد النيل منه، والتي تضمنت اتهامه بارتكاب الجرائم والظلم والجور في حق الشعوب أصحاب الأرض الأصليين (سكان البلاد المفتوحة)، وبالقسوة في معاملة البربر (الأمازيغ) في شمال أفريقيا. وإن أكثر ما يُثار في هذ الصدد هو معاملته لزعيم قبيلة أوربه والبرانس كسيلة، والادعاء بأن عقبة قد أساء إليه وتعمد إهانته، وذلك في مسعى لتبرير نقض كسيلة للعهد مع المسلمين وانقلابه عليهم. وهنا سنعرض سيرة عقبة بن نافع الفهري كما نقلتها لنا كتب التراث ومصادره الرصينة والمحايدة وما جاد علينا البحث الحديث من تحقيق وتمحيص في سيرة أولئك الأبطال والقادة الكبار. ومن ثم سنتعرض لقضية تعامله مع كُسيلة، ونورد بعض الروايات التاريخية، ونسوق ما ذكر من أقوال وآراء فيها.
هو عقبة بن نافع القرشي الفهري، نائب إفريقيا لمعاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد بن معاوية (رحمهما الله)، وهو الذي أنشأ القيروان وأسكنها الناس، وكان ذا شجاعة، وحزم، وديانة، وخلق رفيع. وقد شهد فتح مصر، واختطّ بها، فقد أسند معاوية بن أبي سفيان قيادة حركة الفتح في إفريقيا إلى هذا القائد الكبير. وكان عقبة قد شارك في غزو إفريقيا منذ البداية مع عمرو بن العاص، واكتسب في هذا الميدان خبرة واسعة، وكان عمرو بن العاص قد خلفه على برقة عند عودته إلى الفسطاط، فظل فيها يدعو الناس إلى الإسلام، وقد جاء إسناد القيادة إلى عقبة بن نافع خطوة موفقة في طريق فتح شمال إفريقيا كله، ذلك أنه لطول إقامته في برقة وزويلة وما حولها، منذ فتحها أيام عمرو بن العاص، أدرك أنه لكي يستقر الأمر للمسلمين في إفريقيا ويكف أهلها عن الارتداد، فلا بد من بناء قاعدة ثابتة للمسلمين ينطلقون منها في غزواتهم، ويعودون إليها ويأمنون فيها على أهلهم وأموالهم، فلما أسند إليه معاوية بن أبي سفيان قيادة الفتوحات في إفريقيا، أرسل إليه عشرة الاف فارس وانضم إليه من أسلم من البربر فكثر جمعه (ابن الأثير، الكامل في التاريخ،198، 483)، وسار في جموعه حتى نزل بمغمداش من سرت، فبلغه أن أهل ودان قد نقضوا عهدهم مع بسر بن أبي أرطأة الذي كان عقده معهم حين وجهه إليهم عمرو بن العاص، ومنعوا ما كانوا اتفقوا عليه من الجزية، فوجه إليهم عقبة قسماً من الجيش عليهم عمر بن علي القرشي، وزهير بن قيس البلوي، وسار معهم بالقسم الاخر من الجيش، واتجه إلى فزان، فلما دنا منها دعاهم إلى الإسلام فأجابوا، ثم واصل فتوحاته، فتح قصور كُوّار، وخاور، وغدامس، وغيرها.
في سنة 50 ه، بدأت إفريقيا الإسلامية عهداً جديداً مع عقبة بن نافع، المتمرس بشؤون إفريقيا منذ حداثة سنّه، فقد لاحظ كثرة ارتداد البربر، ونقضهم العهود، وعلم أن السبيل الوحيد للمحافظة على إفريقيا ونشر الإسلام بين أهلها، هو إنشاء مدينة تكون محط رحال المسلمين، ومنها تنطلق جيوشهم فأسس مدينة القيروان وبنى جامعها، وقد مهد عقبة قبل بناء المدينة لجنوده بقوله: إن إفريقيا إذا دخلها إمام أجابوه إلى الإسلام، فإذا خرج منها رجع من كان أجاب منهم لدين الله إلى الكفر، فأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها مدينة تكون عزاً للإسلام إلى اخر الدهر، فاتفق الناس على ذلك وأن يكون أهلها مرابطين، وقالوا: نقرب من البحر ليتم لنا الجهاد والرباط، فقال عقبة: إني أخاف أن يطرقها صاحب القسطنطينية بغتة فيملكها، ولكن اجعلوا بينها وبين البحر ما لا يوجب فيه التقصير للصلاة فهم مرابطون (الصلابي، الدولة الأموية، ج1 ،2008، 363-364). ولم يعجبه موضع القيروان الذي كان بناه معاوية بن حديج قبله، فسار والناس معه حتى أتى موضع القيروان اليوم (عبد اللطيف، العالم الإسلامي في العصر الأموي، 1996، 270)، وكان موضع غيضة لا يرام من السباع والأفاعي، فدعا عليها، فلم يبق فيها شيء، وهربوا حتى إن الوحوش لتحمل أولادها.
يبدو أن عقبة المجاهد المخلص، كان يحس إحساس المؤمن الصادق، أنه سيلقى ربه شهيداً في هذه الجولة، فعندما عزم على المسير من القيروان في بداية الغزو، دعا أولاده وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل… إلى أن قال ولست أدري أتروني بعد يومي هذا أم لا، لأن أملي الموت في سبيل الله، وأوصاهم بما أحب، ثم قال: عليكم سلام الله.. اللهم تقبل نفسي في رضاك (ابن عذارى، 24). نعى عقبة نفسه إلى أولاده، فتقبل الله منه وحقق له أمله في الشهادة، فقد أعد له الروم والبربر كميناً عند تهوذة، وأوقعوا به وقضوا عليه هو ومن معه من جنوده.